يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ } باللّه الذين عبدوا معه غيره {
نَجَسٌ } أي: خبثاء في عقائدهم وأعمالهم، وأي نجاسة أبلغ ممن كان
يعبد مع اللّه آلهة لا تنفع ولا تضر، ولا تغني عنه شيئا؟".
وأعمالهم ما بين محاربة للّه، وصد عن سبيل اللّه ونصر للباطل، ورد للحق،
وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح، فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت
وأطهرها عنهم.
{ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وهو سنة تسع من الهجرة، حين حج بالناس
أبو بكر الصديق، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عليا، أن يؤذن
يوم الحج الأكبر بـ { براءة } فنادى أن
لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وليس المراد هنا، نجاسة البدن، فإن الكافر كغيره طاهر البدن، بدليل أن
اللّه تعالى أباح وطء الكتابية ومباشرتها، ولم يأمر بغسل ما أصاب منها.
والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار، ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا
منها، تَقَذُّرَهْم من النجاسات، وإنما المراد كما تقدم نجاستهم
المعنوية، بالشرك، فكما أن التوحيد والإيمان، طهارة، فالشرك نجاسة.
وقوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ } أيها
المسلمون { عَيْلَةً } أي: فقرا وحاجة،
من منع المشركين من قربان المسجد الحرام، بأن تنقطع الأسباب التي بينكم
وبينهم من الأمور الدنيوية، { فَسَوْفَ
يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فليس الرزق مقصورا على باب
واحد، ومحل واحد، بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره أبواب كثيرة، فإن فضل
اللّه واسع، وجوده عظيم، خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم، فإن اللّه
أكرم الأكرمين.
وقد أنجز اللّه وعده، فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله، وبسط لهم من
الأرزاق ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك.
وقوله: { إِنْ شَاءَ } تعليق للإغناء
بالمشيئة، لأن الغنى في الدنيا، ليس من لوازم الإيمان، ولا يدل على محبة
اللّه، فلهذا علقه اللّه بالمشيئة.
فإن اللّه يعطي الدنيا، من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والدين،
إلا من يحب.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي:
علمه
واسع، يعلم من يليق به الغنى، ومن لا يليق، ويضع الأشياء مواضعها وينزلها
منازلها.
وتدل الآية الكريمة، وهي قوله { فَلَا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } أن
المشركين بعد ما كانوا، هم الملوك والرؤساء بالبيت، ثم صار بعد الفتح
الحكم لرسول اللّه والمؤمنين، مع إقامتهم في البيت، ومكة المكرمة، ثم
نزلت هذه الآية.
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يجلوا من الحجاز، فلا يبقى
فيها دينان، وكل هذا لأجل بُعْدِ كل كافر عن المسجد الحرام، فيدخل في
قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }
هذه الآية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من {
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
} إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم. ولا يحرمون ما حرم الله، فلا
يتبعون شرعه في تحريم المحرمات، { وَلَا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } أي: لا يدينون بالدين الصحيح، وإن
زعموا أنهم على دين، فإنه دين غير الحق، لأنه إما بين دين مبدل، وهو الذي
لم يشرعه اللّه أصلا، وإما دين منسوخ قد شرعه اللّه، ثم غيره بشريعة محمد
صلى الله عليه وسلم، فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز.
فأمره بقتال هؤلاء وحث على ذلك، لأنهم يدعون إلى ما هم عليه، ويحصل الضرر
الكثير منهم للناس، بسبب أنهم أهل كتاب.
وغيَّى ذلك القتال { حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ } أي: المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم،
وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم، بين أظهر المسلمين، يؤخذ منهم كل
عام، كلٌّ على حسب حاله، من غني وفقير ومتوسط، كما فعل ذلك أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب وغيره، من أمراء المؤمنين.
وقوله: { عَنْ يَدٍ } أي: حتى يبذلوها
في حال ذلهم، وعدم اقتدارهم، ويعطونها بأيديهم، فلا يرسلون بها خادما ولا
غيره، بل لا تقبل إلا من أيديهم، { وَهُمْ
صَاغِرُونَ }
فإذا كانوا بهذه الحال، وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية، وهم تحت
أحكام المسلمين وقهرهم، وحال الأمن من شرهم وفتنتهم، واستسلموا للشروط
التي أجراها عليهم المسلمون مما ينفي عزهم وتكبرهم، ويوجب ذلهم وصغارهم،
وجب على الإمام أو نائبه أن يعقدها لهم.
وإلا بأن لم يفوا، ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لم يجز إقرارهم
بالجزية، بل يقاتلون حتى يسلموا.
واستدل بهذه الآية الجمهور الذين يقولون: لا تؤخذ الجزية إلا من أهل
الكتاب، لأن اللّه لم يذكر أخذ الجزية إلا منهم.
وأما غيرهم فلم يذكر إلا قتالهم حتى يسلموا، وألحق بأهل الكتاب في أخد
الجزية وإقرارهم في ديار المسلمين، المجوس، فإن النبي صلى الله عليه
وسلم، أخذ الجزية من مجوس هجر، ثم أخذها أمير المؤمنين عمر من الفرس
المجوس.
وقيل: إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، لأن هذه
الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين، والشروع في قتال أهل
الكتاب ونحوهم، فيكون هذا القيد إخبارا بالواقع، لا مفهوما له.
ويدل على هذا أن المجوس أخذت منهم الجزية وليسوا أهل كتاب، ولأنه قد
تواتر عن المسلمين من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى
إحدى ثلاث: إما الإسلام، أو أداء الجزية، أو السيف، من غير فرق بين
كِتَابِيٍّ وغيره.
لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب، ذكر من أقوالهم الخبيثة، ما يهيج
المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينه على قتالهم، والاجتهاد وبذل الوسع
فيه فقال: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ
ابْنُ اللَّهِ } وهذه المقالة وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها
فرقة منهم، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ما أوصلهم إلى أن
قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه، وتنقصوا عظمته وجلاله.
وقد قيل: إن سبب ادعائهم في { عزير }
أنه ابن اللّه، أنه لما سلط الله الملوك على بني إسرائيل، ومزقوهم كل
ممزق، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة، وجدوا
عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لأكثرها، فأملاها عليهم من حفظه، واستنسخوها،
فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة.
{ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ }
عيسى ابن مريم { ابْنُ اللَّهِ } قال
اللّه تعالى { ذَلِكَ } القول الذي
قالوه { قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ }
لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا.
ومن كان لا يبالي بما يقول، لا يستغرب عليه أي قول يقوله، فإنه لا دين
ولا عقل، يحجزه، عما يريد من الكلام.
ولهذا قال: { يُضَاهِئُونَ } أي:
يشابهون في قولهم هذا { قَوْلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي: قول المشركين الذين يقولون: {
الملائكة بنات اللّه } تشابهت قلوبهم، فتشابهت أقوالهم في
البطلان.
{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
} أي: كيف يصرفون على الحق، الصرف الواضح المبين، إلى القول
الباطل المبين.
وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة، أن تتفق على قول- يدل على
بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه، فإن لذلك سببا وهو أنهم: {
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ } وهم علماؤهم {
وَرُهْبَانَهُمْ } أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة.
{ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }
يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه،
ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها.
وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم، ويتخذون قبورهم أوثانا
تعبد من دون اللّه، وتقصد بالذبائح، والدعاء والاستغاثة.
{ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } اتخذوه
إلها من دون اللّه، والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على ألسنة
رسله فما { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } فيخلصون له العبادة
والطاعة، ويخصونه بالمحبة والدعاء، فنبذوا أمر اللّه وأشركوا به ما لم
ينزل به سلطانا.
{ سُبْحَانَهُ } وتعالى {
عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي: تنزه وتقدس، وتعالت عظمته عن شركهم
وافترائهم، فإنهم ينتقصونه في ذلك، ويصفونه بما لا يليق بجلاله، واللّه
تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن كل ما نسب إليه، مما ينافي كماله
المقدس.
فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه، ولا برهان لما أصَّلوه، وإنما هو
مجرد قول قالوه وافتراء افتروه أخبر أنهم {
يُرِيدُونَ } بهذا { أَنْ يُطْفِئُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }
ونور اللّه: دينه الذي أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، وسماه اللّه نورا،
لأنه يستنار به في ظلمات الجهل والأديان الباطلة، فإنه علم بالحق، وعمل
بالحق، وما عداه فإنه بضده، فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهوه من
المشركين، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم، التي ليس عليها
دليل أصلا.
{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ } لأنه النور الباهر، الذي لا يمكن لجميع الخلق لو
اجتمعوا على إطفائه أن يطفئوه، والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده، وقد
تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء، ولهذا قال: {
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ } وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله، فإن سعيهم لا
يضر الحق شيئا.
ثم بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال: {
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } الذي هو العلم
النافع { وَدِينِ الْحَقِّ } الذي هو
العمل الصالح فكان ما بعث اللّه به محمدا صلى الله عليه وسلم مشتملا على
بيان الحق من الباطل في أسماء اللّه وأوصافه وأفعاله، وفي أحكامه
وأخباره، والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب، والأرواح والأبدان من إخلاص
الدين للّه وحده، ومحبة اللّه وعبادته، والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن
الشيم، والأعمال الصالحة والآداب النافعة، والنهي عن كل ما يضاد ذلك
ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيئة المضرة للقلوب والأبدان والدنيا
والآخرة.
فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق { لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } أي:
ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، وإن كره
المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم، فإن المكر السيئ لا يضر
إلا صاحبه، فوعد اللّه لا بد أن ينجزه، وما ضمنه لابد أن يقوم به.
هذا تحذير من اللّه تعالى لعباده المؤمنين عن كثير من الأحبار والرهبان،
أي: العلماء والعباد الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، أي: بغير حق،
ويصدون عن سبيل اللّه، فإنهم إذا كانت لهم رواتب من أموال الناس، أو بذل
الناس لهم من أموالهم فإنه لأجل علمهم وعبادتهم، ولأجل هداهم وهدايتهم،
وهؤلاء يأخذونها ويصدون الناس عن سبيل اللّه، فيكون أخذهم لها على هذا
الوجه سحتا وظلما، فإن الناس ما بذلوا لهم من أموالهم إلا ليدلوهم إلى
الطريق المستقيم.
ومن أخذهم لأموال الناس بغير حق، أن يعطوهم ليفتوهم أو يحكموا لهم بغير
ما أنزل اللّه، فهؤلاء الأحبار والرهبان، ليحذر منهم هاتان الحالتان:
أخذهم لأموال الناس بغير حق، وصدهم الناس عن سبيل اللّه.
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ } أي: يمسكونها { وَلَا
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: طرق الخير الموصلة إلى
اللّه، وهذا هو الكنز المحرم، أن يمسكها عن النفقة الواجبة، كأن يمنع
منها الزكاة أو النفقات الواجبة للزوجات، أو الأقارب، أو النفقة في سبيل
اللّه إذا وجبت.
{ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ثم
فسره بقوله:
{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا } أي: على
أموالهم، { فِي نَارِ جَهَنَّمَ } فيحمى
كل دينار أو درهم على حدته.
{ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ } في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان
مقداره خمسين ألف سنة، ويقال لهم توبيخا ولوما: {
هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ
} فما ظلمكم ولكنكم ظلمتم أنفسكم وعذبتموها بهذا الكنز.
وذكر اللّه في هاتين الآيتين، انحراف الإنسان في ماله، وذلك بأحد أمرين:
إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعا، بل لا يناله منه إلا
الضرر المحض، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على
طاعة اللّه، وإخراجها للصد عن سبيل اللّه.
وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات، و {
النهي عن الشيء، أمر بضده }
يقول تعالى { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ
اللَّهِ } أي: في قضائه وقدره. { اثْنَا
عَشَرَ شَهْرًا } وهي هذه الشهور المعروفة {
فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي في حكمه القدري، {
يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وأجرى ليلها ونهارها،
وقدر أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الاثني عشر [شهرا].
{ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } وهي: رجب
الفرد، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وسميت حرما لزيادة حرمتها،
وتحريم القتال فيها.
{ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
} يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرا، وأن اللّه تعالى بين
أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تعمر بطاعته، ويشكر اللّه تعالى على
مِنَّتِهِ بها، وتقييضها لمصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها.
ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم
فيها، خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها
أشد منه في غيرها.
ومن ذلك النهي عن القتال فيها، على قول من قال: إن القتال في الأشهر
الحرام لم ينسخ تحريمه عملا بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها.
ومنهم من قال: إن تحريم القتال فيها منسوخ، أخذا بعموم نحو قوله تعالى: {
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً
} أي: قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين برب العالمين.
ولا تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد، بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما
كانوا هم معكم كذلك، قد اتخذوا أهل الإيمان أعداء لهم، لا يألونهم من
الشر شيئا.
ويحتمل أن { كَافَّةً } حال من الواو
فيكون معنى هذا: وقاتلوا جميعكم المشركين، فيكون فيها وجوب النفير على
جميع المؤمنين.
وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله: { وَمَا
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } الآية. {
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بعونه ونصره
وتأييده، فلتحرصوا على استعمال تقوى اللّه في سركم وعلنكم والقيام
بطاعته، خصوصا عند قتال الكفار، فإنه في هذه الحال، ربما ترك المؤمن
العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء المحاربين.
النسيء: هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم، وكان من جملة
بدعهم الباطلة، أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال، في بعض أوقات الأشهر
الحرم، رأوا -بآرائهم الفاسدة- أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم، التي
حرم اللّه القتال فيها، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم، أو يقدموه، ويجعلوا
مكانه من أشهر الحل ما أرادوا، فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه،
وجعلوا الشهر الحلال حراما، فهذا -كما أخبر اللّه عنهم- أنه زيادة في
كفرهم وضلالهم، لما فيه من المحاذير.
منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه،
واللّه ورسوله بريئان منه.
ومنها: أنهم قلبوا الدين، فجعلوا الحلال حراما، والحرام حلالا.
ومنها: أنهم مَوَّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده، ولبسوا عليهم دينهم،
واستعملوا الخداع والحيلة في دين اللّه.
ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها، يزول قبحها عن
النفوس، وربما ظن أنها عوائد حسنة، فحصل من الغلط والضلال ما حصل، ولهذا
قال: { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ } أي: ليوافقوها في العدد، فيحلوا ما حرم اللّه.
{ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ }
أي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، بسبب العقيدة
المزينة في قلوبهم.
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ } أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم، فلو
جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا.
اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة، نزلت في غزوة تبوك، إذ ندب النبي
صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى غزو الروم، وكان الوقت حارا، والزاد
قليلا، والمعيشة عسرة، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل ما أوجب أن
يعاتبهم اللّه تعالى عليه ويستنهضهم، فقال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ألا
تعملون بمقتضى الإيمان، وداعي اليقين من المبادرة لأمر اللّه، والمسارعة
إلى رضاه، وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم، فـ {
مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ } أي: تكاسلتم، وملتم إلى الأرض
والدعة والسكون فيها.
{ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ
الْآخِرَةِ } أي: ما حالكم إلا حال من رضي بالدنيا وسعى لها ولم
يبال بالآخرة، فكأنه ما آمن بها.
{ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
} التي مالت بكم، وقدمتموها على الآخرة {
إِلَّا قَلِيلٌ } أفليس قد جعل اللّه لكم عقولا تَزِنُون بها
الأمور، وأيها أحق بالإيثار؟.
أفليست الدنيا -من أولها إلى آخرها- لا نسبة لها في الآخرة. فما مقدار
عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا حتى يجعله الغاية التي لا غاية وراءها،
فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته لا يتعدى حياته الدنيا القصيرة المملوءة
بالأكدار، المشحونة بالأخطار.
فبأي رَأْيٍ رأيتم إيثارها على الدار الآخرة الجامعة لكل نعيم، التي فيها
ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون، فواللّه ما آثر الدنيا
على الآخرة من وقر الإيمان في قلبه، ولا من جزل رأيه، ولا من عُدَّ من
أولي الألباب، ثم توعدهم على عدم النفير فقال:
{ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا } في الدنيا والآخرة، فإن عدم النفير في حال الاستنفار
من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب، لما فيها من المضار الشديدة، فإن
المتخلف، قد عصى اللّه تعالى وارتكب لنهيه، ولم يساعد على نصر دين اللّه،
ولا ذب عن كتاب اللّه وشرعه، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم الذي
يريد أن يستأصلهم ويمحق دينهم، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان، بل
ربما فَتَّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء اللّه، فحقيق بمن هذا حاله أن
يتوعده اللّه بالوعيد الشديد، فقال: { إِلَّا
تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ } ثم لا يكونوا أمثالكم {
وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا } فإنه تعالى متكفل بنصر دينه وإعلاء
كلمته، فسواء امتثلتم لأمر اللّه، أو ألقيتموه، وراءكم ظهريا.
{ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
} لا يعجزه شيء أراده، ولا يغالبه أحد.
أي: إلا تنصروا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فاللّه غني عنكم، لا
تضرونه شيئا، فقد نصره في أقل ما يكون وأذلة {
إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } من مكة لما هموا بقتله،
وسعوا في ذلك، وحرصوا أشد الحرص، فألجؤوه إلى أن يخرج.
{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أي: هو وأبو بكر
الصديق رضي اللّه عنه. { إِذْ هُمَا فِي
الْغَارِ } أي: لما هربا من مكة، لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة،
فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب.
فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب
يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال.
{ إِذْ يَقُولُ } النبي صلى الله عليه
وسلم { لِصَاحِبِهِ } أبي بكر لما حزن
واشتد قلقه، { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ
مَعَنَا } بعونه ونصره وتأييده.
{ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
} أي: الثبات والطمأنينة، والسكون المثبتة للفؤاد، ولهذا لما قلق
صاحبه سكنه وقال { لا تحزن إن اللّه معنا
}
{ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا
} وهي الملائكة الكرام، الذين جعلهم اللّه حرسا له، {
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى } أي: الساقطة
المخذولة، فإن الذين كفروا قد كانوا على حرد قادرين، في ظنهم على قتل
الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذه، حنقين عليه، فعملوا غاية مجهودهم في
ذلك، فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم، بل ولا أدركوا شيئا منه.
ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع، فإن
النصر على قسمين: نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما
طلبوا، وقصدوا، ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم.
والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر، فنصر اللّه إياه، أن يرد
عنه عدوه، ويدافع عنه، ولعل هذا النصر أنفع النصرين، ونصر اللّه رسوله إذ
أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع.
وقوله { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
} أي كلماته القدرية وكلماته الدينية، هي العالية على كلمة غيره،
التي من جملتها قوله: { وَكَانَ حَقًّا
عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } {
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } {
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } فدين اللّه هو الظاهر
العالي على سائر الأديان، بالحجج الواضحة، والآيات الباهرة والسلطان
الناصر.
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالبه مغالب،
ولا يفوته هارب، { حَكِيمٌ } يضع
الأشياء مواضعها، وقد يؤخر نصر حزبه إلى وقت آخر، اقتضته الحكمة الإلهية.
وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه
الأمة، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة، والصحبة الجميلة، وقد أجمع
المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة، ولهذا عدوا من أنكر صحبة
أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، كافرا، لأنه منكر للقرآن الذي صرح
بها.
وفيها فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات
الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد
بربه، وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وشجاعته.
وفيها: أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، مع أن الأولى -إذا
نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه، فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة.
يقول تعالى لعباده المؤمنين -مهيجا لهم على النفير في سبيله فقال: {
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } أي: في العسر واليسر، والمنشط
والمكره، والحر والبرد، وفي جميع الأحوال.
{ وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: ابذلوا جهدكم في ذلك، واستفرغوا وسعكم
في المال والنفس، وفي هذا دليل على أنه -كما يجب الجهاد في النفس- يجب
الجهاد في المال، حيث اقتضت الحاجة ودعت لذلك.
ثم قال: { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: الجهاد في النفس والمال، خير لكم من
التقاعد عن ذلك، لأن فيه رضا اللّه تعالى، والفوز بالدرجات العاليات
عنده، والنصر لدين اللّه، والدخول في جملة جنده وحزبه.
لو كان خروجهم لطلب العرض القريب، أي: منفعة دنيوية سهلة التناول {
و } كان السفر { َسَفَرًا قَاصِدًا
} أي: قريبا سهلا. { لَاتَّبَعُوكَ
} لعدم المشقة الكثيرة، { وَلَكِنْ
بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } أي: طالت عليهم المسافة، وصعب
عليهم السفر، فلذلك تثاقلوا عنك، وليس هذا من أمارات العبودية، بل العبد
حقيقة هو المتعبد لربه في كل حال، القائم بالعبادة السهلة والشاقة، فهذا
العبد للّه على كل حال.
{ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا
لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي: سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أن لهم
أعذرا وأنهم لا يستطيعون ذلك.
وهذا العتاب إنما هو للمنافقين، الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه
وسلم في { غزوة تبوك } وأبدوا من
الأعذار الكاذبة ما أبدوا، فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بمجرد
اعتذارهم، من غير أن يمتحنهم، فيتبين له الصادق من الكاذب، ولهذا عاتبه
اللّه على هذه المسارعة إلى عذرهم فقال:
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { عَفَا
اللَّهُ عَنْكَ } أي: سامحك وغفر لك ما أجريت.
{ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } في التخلف {
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
} بأن تمتحنهم، ليتبين لك الصادق من الكاذب، فتعذر من يستحق العذر
ممن لا يستحق ذلك.
ثم أخبر أن المؤمنين باللّه واليوم الآخر، لا يستأذنون في ترك الجهاد
بأموالهم وأنفسهم، لأن ما معهم من الرغبة في الخير والإيمان، يحملهم على
الجهاد من غير أن يحثهم عليه حاث،
فضلا عن كونهم يستأذنون في تركه من غير عذر.
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ }
فيجازيهم على ما قاموا به من تقواه، ومن علمه بالمتقين، أنه أخبر، أن من
علاماتهم، أنهم لا يستأذنون في ترك الجهاد.
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ
} أي: ليس لهم إيمان تام، ولا يقين صادق، فلذلك قلَّتْ رغبتهم في
الخير، وجبنوا عن القتال، واحتاجوا أن يستأذنوا في ترك القتال. {
فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي: لا يزالون في الشك
والحيرة.
يقول تعالى مبينا أن المتخلفين من المنافقين قد ظهر منهم من القرائن ما
يبين أنهم ما قصدوا الخروج للجهاد بالكلية، وأن أعذارهم التي اعتذروها
باطلة، فإن العذر هو المانع الذي يمنع إذا بذل العبد وسعه، وسعى في أسباب
الخروج، ثم منعه مانع شرعي، فهذا الذي يعذر.
{ و } أما هؤلاء المنافقون فـ {
لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً } أي:
لاستعدوا وعملوا ما يمكنهم من الأسباب، ولكن لما لم يعدوا له عدة، علم
أنهم ما أرادوا الخروج.
{ وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ
} معكم في الخروج للغزو { فَثَبَّطَهُمْ
} قدرا وقضاء، وإن كان قد أمرهم وحثهم على الخروج، وجعلهم مقتدرين
عليه، ولكن بحكمته ما أراد إعانتهم، بل خذلهم وثبطهم {
وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } من النساء والمعذورين.
ثم ذكر الحكمة في ذلك فقال { لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا } أي: نقصا.
{ وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ } أي:
ولسعوا في الفتنة والشر بينكم، وفرقوا جماعتكم المجتمعين، {
يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أي: هم حريصون على فتنتكم وإلقاء
العداوة بينكم.
{ وَفِيكُمْ } أناس ضعفاء العقول {
سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي: مستجيبون لدعوتهم يغترون بهم، فإذا
كانوا هم حريصين على خذلانكم، وإلقاء الشر بينكم، وتثبيطكم عن أعدائكم،
وفيكم من يقبل منهم ويستنصحهم. فما ظنك بالشر الحاصل من خروجهم مع
المؤمنين، والنقص الكثير منهم، فللّه أتم الحكمة حيث ثبطهم ومنعهم من
الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم، ولطفا من أن يداخلهم ما لا ينفعهم،
بل يضرهم.
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
فيعلم عباده كيف يحذرونهم، ويبين لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم.
ثم ذكر أنه قد سبق لهم سوابق في الشر فقال: {
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ } أي: حين هاجرتم إلى
المدينة، بذلوا الجهد، { وَقَلَّبُوا لَكَ
الْأُمُورَ } أي: أداروا الأفكار، وأعملوا الحيل في إبطال دعوتكم
وخذلان دينكم، ولم يقصروا في ذلك، { حَتَّى
جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } فبطل
كيدهم واضمحل باطلهم، فحقيق بمثل هؤلاء أن يحذر اللّه عباده المؤمنين
منهم، وأن لا يبالي المؤمنين، بتخلفهم عنهم.
أي: ومن هؤلاء المنافقين من يستأذن في التخلف، ويعتذر بعذر آخر عجيب،
فيقول: { ائْذَنْ لِي } في التخلف {
وَلَا تَفْتِنِّي } في الخروج، فإني إذا خرجت، فرأيت نساء بين
الأصفر لا أصبر عنهن، كما قال ذلك { الجد بن
قيس }
ومقصوده -قبحه اللّه- الرياء والنفاق بأن مقصودي مقصود حسن، فإن في خروجي
فتنة وتعرضا للشر، وفي عدم خروجي عافية وكفا عن الشر.
قال اللّه تعالى مبينا كذب هذا القول: { أَلَا
فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } فإنه على تقدير صدق هذا القائل في
قصده، [فإن] في التخلف مفسدة كبرى وفتنة عظمى محققة، وهي معصية اللّه
ومعصية رسوله، والتجرؤ على الإثم الكبير، والوزر العظيم، وأما الخروج
فمفسدة قليلة بالنسبة للتخلف، وهي متوهمة، مع أن هذا القائل قصده التخلف
لا غير، ولهذا توعدهم اللّه بقوله: { وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ليس لهم عنها مفر ولا
مناص، ولا فكاك، ولا خلاص.
يقول تعالى مبينا أن المنافقين هم الأعداء حقا، المبغضون للدين صرفا: {
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ } كنصر وإدالة على العدو {
تَسُؤْهُمْ } أي: تحزنهم وتغمهم.
{ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } كإدالة
العدو عليك { يَقُولُوا } متبجحين
بسلامتهم من الحضور معك.
{ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ
} أي: قد حذرنا وعملنا بما ينجينا من الوقوع في مثل هذه المصيبة.
{ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ }
فيفرحون بمصيبتك، وبعدم مشاركتهم إياك فيها. قال تعالى رادا عليهم في ذلك
{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ
اللَّهُ لَنَا } أي: ما قدره وأجراه في اللوح المحفوظ.
{ هُوَ مَوْلَانَا } أي: متولي أمورنا
الدينية والدنيوية، فعلينا الرضا بأقداره وليس في أيدينا من الأمر شيء.
{ وَعَلَى اللَّهِ } وحده {
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي: يعتمدوا عليه في جلب
مصالحهم ودفع المضار عنهم، ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم، فلا خاب من توكل
عليه، وأما من توكل على غيره، فإنه مخذول غير مدرك لما أمل.