يأمر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وغيره أسوته، في الأوامر
والنواهي -أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين {
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } أي:
أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها،
ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن
كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى.
{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
} فإن هذا ضار غير نافع، وقاطع عن المصالح الدينية، فإن ذلك يوجب
تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة
في الآخرة، فإن زينة الدنيا تروق للناظر، وتسحر العقل، فيغفل القلب عن
ذكر الله، ويقبل على اللذات والشهوات، فيضيع وقته، وينفرط أمره، فيخسر
الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية، ولهذا قال: {
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } غفل عن
الله، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره.
{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي: صار تبعا
لهواه، حيث ما اشتهت نفسه فعله، وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكه
وخسرانه، فهو قد اتخذ إلهه هواه، كما قال تعالى: {
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } الآية. {
وَكَانَ أَمْرُهُ } أي: مصالح دينه ودنياه {
فُرُطًا } أي: ضائعة معطلة. فهذا قد نهى الله عن طاعته، لأن طاعته
تدعو إلى الاقتداء به، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به، ودلت الآية،
على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماما للناس، من امتلأ قلبه بمحبة
الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على
هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا
الناس إلى ما من الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماما، والصبر
المذكور في هذه الآية، هو الصبر على طاعة الله، الذي هو أعلى أنواع
الصبر، وبتمامه تتم باقي الأقسام. وفي الآية، استحباب الذكر والدعاء
والعبادة طرفي النهار، لأن الله مدحهم بفعله، وكل فعل مدح الله فاعله، دل
ذلك على أن الله يحبه، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به، ويرغب فيه.
أي: قل للناس يا محمد: هو الحق من ربكم أي: قد تبين الهدى من الضلال،
والرشد من الغي، وصفات أهل السعادة، وصفات أهل الشقاوة، وذلك بما بينه
الله على لسان رسوله، فإذا بان واتضح، ولم يبق فيه شبهة.
{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ
فَلْيَكْفُرْ } أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين، بحسب توفيق
العبد، وعدم توفيقه، وقد أعطاه الله مشيئة بها يقدر على الإيمان والكفر،
والخير والشر، فمن آمن فقد وفق للصواب، ومن كفر فقد قامت عليه الحجة،
وليس بمكره على الإيمان، كما قال تعالى { لا
إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } وليس في قوله: {
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } الإذن في كلا الأمرين، وإنما ذلك
تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام، كما ليس فيها ترك قتال
الكافرين. ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال: {
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } بالكفر والفسوق والعصيان {
نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي: سورها المحيط بها، فليس
لهم منفذ ولا طريق ولا مخلص منها، تصلاهم النار الحامية.
{ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا } أي: يطلبوا
الشراب، ليطفئ ما نزل بهم من العطش الشديد.
{ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ } أي:
كالرصاص المذاب، أو كعكر الزيت، من شدة حرارته.
{ يَشْوِي الْوُجُوهَ } أي: فكيف
بالأمعاء والبطون، كما قال تعالى { يصهر به ما
في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد }
{ بِئْسَ الشَّرَابُ } الذي يراد ليطفئ
العطش، ويدفع بعض العذاب، فيكون زيادة في عذابهم، وشدة عقابهم.
{ وَسَاءَتْ } النار {
مُرْتَفَقًا } وهذا ذم لحالة النار، أنها ساءت المحل، الذي يرتفق
به، فإنها ليست فيها ارتفاق، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق، الذي لا
يفتر عنهم ساعة، وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير، ونسيهم الرحيم في
العذاب، كما نسوه.
ثم ذكر الفريق الثاني فقال: { إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: جمعوا بين الإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وعمل الصالحات من
الواجبات والمستحبات { إِنَّا لَا نُضِيعُ
أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا } وإحسان العمل: أن يريد العبد
العمل لوجه الله، متبعا في ذلك شرع الله. فهذا العمل لا يضيعه الله، ولا
شيئا منه، بل يحفظه للعاملين، ويوفيهم من الأجر، بحسب عملهم وفضله
وإحسانه، وذكر أجرهم بقوله: { أُولَئِكَ لَهُمْ
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ
فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ
سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ
}
أي: أولئك الموصوفون بالإيمان والعمل الصالح، لهم الجنات العاليات التي
قد كثرت أشجارها، فأجنت من فيها، وكثرت أنهارها، فصارت تجري من تحت تلك
الأشجار الأنيقة، والمنازل الرفيعة، وحليتهم فيها الذهب، ولباسهم فيها
الحرير الأخضر من السندس، وهو الغليظ من الديباج، والإستبرق، وهو ما رق
منه. متكئين فيها على الأرائك، وهي السرر المزينة، المجملة بالثياب
الفاخرة فإنها لا تسمى أريكة حتى تكون كذلك، وفي اتكائهم على الأرائك، ما
يدل على كمال الراحة، وزوال النصب والتعب، وكون الخدم يسعون عليهم بما
يشتهون، وتمام ذلك الخلود الدائم والإقامة الأبدية، فهذه الدار الجليلة {
نِعْمَ الثَّوَابُ } للعاملين {
وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } يرتفقون بها، ويتمتعون بما فيها، مما
تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، من الحبرة والسرور، والفرح الدائم، واللذات
المتواترة، والنعم المتوافرة، وأي مرتفق أحسن من دار، أدنى أهلها، يسير
في ملكه ونعيمه وقصوره وبساتينه ألفي سنة، ولا يرى فوق ما هو فيه من
النعيم، قد أعطى جميع أمانيه ومطالبه، وزيد من المطالب، ما قصرت عنه
الأماني، ومع ذلك، فنعيمهم على الدوام متزايد في أوصافه وحسنه، فنسأل
الله الكريم، أن لا يحرمنا خير ما عنده من الإحسان، بشر ما عندنا من
التقصير والعصيان.
ودلت الآية الكريمة وما أشبهها، على أن الحلية، عامة للذكور والإناث، كما
ورد في الأحاديث الصحيحة لأنه أطلقها في قوله {
يُحَلَّوْنَ } وكذلك الحرير ونحوه.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اضرب للناس مثل هذين الرجلين،
الشاكر لنعمة الله، والكافر لها، وما صدر من كل منهما، من الأقوال
والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل، والثواب، ليعتبروا
بحالهما، ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس معرفة أعيان الرجلين، وفي أي:
زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة، فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط،
والتعرض لما سوى ذلك من التكلف. فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله
الجليلة، جعل الله له جنتين، أي: بستانين حسنين، من أعناب.
{ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } أي: في
هاتين الجنتين من كل الثمرات، وخصوصا أشرف الأشجار، العنب والنخل، فالعنب
في وسطها، والنخل قد حف بذلك، ودار به، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه،
وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح، التي تكمل بها الثمار، وتنضج وتتجوهر،
ومع ذلك جعل بين تلك الأشجار زرعا، فلم يبق عليهما إلا أن يقال: كيف ثمار
هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء يكفيهما؟ فأخبر تعالى أن كلا من الجنتين آتت
أكلها، أي: ثمرها وزرعها ضعفين، أي: متضاعفا {
و } أنها { لم تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا
} أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء، ومع ذلك، فالأنهار في جوانبهما
سارحة، كثيرة غزيرة.
{ وَكَانَ لَهُ } أي: لذلك الرجل {
ثَمَرٌ } أي: عظيم كما يفيده التنكير، أي: قد استكملت جنتاه
ثمارهما، وارجحنت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص، فهذا غاية منتهى
زينة الدنيا في الحرث، ولهذا اغتر هذا الرجل بهما، وتبجح وافتخر، ونسي
آخرته.
أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن، وهما يتحاوران، أي: يتراجعان
بينهما في بعض الماجريات المعتادة، مفتخرا عليه: {
أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } فخر بكثرة
ماله، وعزة أنصاره من عبيد، وخدم، وأقارب، وهذا جهل منه، وإلا فأي:
افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، وإنما هو بمنزله
فخر الصبي بالأماني، التي لا حقائق تحتها، ثم لم يكفه هذا الافتخار على
صاحبه، حتى حكم، بجهله وظلمه، وظن لما دخل جنته، فـ {
قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ } أي: تنقطع وتضمحل {
هَذِهِ أَبَدًا } فاطمأن إلى هذه الدنيا، ورضى بها، وأنكر البعث،
فقال: { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً
وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي } على ضرب المثل {
لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } أي ليعطيني خيرا من
هاتين الجنتين، وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال،
فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره،
وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من
العقل، فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من
أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن
أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب،
والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم
والاستهزاء، بدليل قوله: { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ
وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله،
الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده.
أي: قال له صاحبه المؤمن، ناصحا له، ومذكرا له حاله الأولى، التي أوجده
الله فيها في الدنيا { مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } فهو الذي أنعم عليك بنعمة
الإيجاد والإمداد، وواصل عليك النعم، ونقلك من طور إلى طور، حتى سواك
رجلا، كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة، والمعقولة، وبذلك يسر لك الأسباب،
وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا، فلم تحصل لك الدنيا بحولك وقوتك، بل بفضل
الله تعالى عليك، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب، ثم من
نطفة ثم سواك رجلا، وتجحد نعمته، وتزعم أنه لا يبعثك، وإن بعثك أنه
يعطيك خيرا من جنتك؟! هذا مما لا ينبغي ولا يليق. ولهذا لما رأى صاحبه
المؤمن حاله واستمراره على كفره وطغيانه، قال مخبرا عن نفسه، على وجه
الشكر لربه، والإعلان بدينه، عند ورود المجادلات والشبه: {
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا }
فأقر بربوبية لربه، وانفراده فيها، والتزم طاعته وعبادته، وأنه لا يشرك
به أحدا من المخلوقين، ثم أخبره أن نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام،
ولو مع قلة ماله وولد، أنها هي النعمة الحقيقية، وأن ما عداها معرض
للزوال والعقوبة عليه والنكال، فقال:
أي: قال للكافر صاحبه المؤمن: أنت -وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك،
ورأيتني أقل منك مالا وولدا -فإن ما عند الله، خير وأبقى، وما يرجى من
خيره وإحسانه، أفضل من جميع الدنيا، التي يتنافس فيها المتنافسون.
{ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ
جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا } أي: على جنتك التي طغيت بها
وغرتك { حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ }
أي: عذابا، بمطر عظيم أو غيره، { فَتُصْبِحَ
} بسبب ذلك { صَعِيدًا زَلَقًا }
أي: قد اقتلعت أشجارها، وتلفت ثمارها، وغرق زرعها، وزال نفعها.
{ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا } الذي مادتها
منه { غَوْرًا } أي: غائرا في الأرض {
فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } أي: غائرا لا يستطاع الوصول
إليه بالمعاول ولا بغيرها، وإنما دعا على جنته المؤمن، غضبا لربه، لكونها
غرته وأطغته، واطمأن إليها، لعله ينيب، ويراجع رشده، ويبصر في أمره.
فاستجاب الله دعاءه { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ
} أي: أصابه عذاب، أحاط به، واستهلكه، فلم يبق منه شيء، والإحاطة
بالثمر يستلزم تلف جميع أشجاره، وثماره، وزرعه، فندم كل الندامة، واشتد
لذلك أسفه، { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ
عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } أي على كثرة نفقاته الدنيوية عليها،
حيث اضمحلت وتلاشت، فلم يبق لها عوض، وندم أيضا على شركه، وشره، ولهذا
قال: { وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ
بِرَبِّي أَحَدًا }
قال الله تعالى: { وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا } أي:
لما نزل العذاب بجنته، ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه: {
أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } فلم يدفعوا عنه
من العذاب شيئا، أشد ما كان إليهم حاجة، وما كان بنفس منتصرا، وكيف
ينتصر، أي: يكون له أنصارا على قضاء الله وقدره الذي إذا أمضاه وقدره، لو
اجتمع أهل السماء والأرض على إزالة شيء منه، لم يقدروا؟"
ولا يستبعد من رحمة الله ولطفه، أن صاحب هذه الجنة، التي أحيط بها، تحسنت
حاله، ورزقه الله الإنابة إليه، وراجع رشده، وذهب تمرده وطغيانه، بدليل
أنه أظهر الندم على شركه بربه، وأن الله أذهب عنه ما يطغيه، وعاقبه في
الدنيا، وإذا أراد الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا. وفضل الله
لا تحيط به الأوهام والعقول، ولا ينكره إلا ظالم جهول.
{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ
هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي: في تلك الحال التي
أجرى الله فيها العقوبة على من طغى، وآثر الحياة الدنيا، والكرامة لمن
آمن، وعمل صالحا، وشكر الله، ودعا غيره لذلك، تبين وتوضح أن الولاية لله
الحق، فمن كان مؤمنا به تقيا، كان له وليا، فأكرمه بأنواع الكرامات، ودفع
عنه الشرور والمثلات، ومن لم يؤمن بربه ويتولاه، خسر دينه ودنياه، فثوابه
الدنيوي والأخروي، خير ثواب يرجى ويؤمل، ففي هذه القصة العظيمة، اعتبار
بحال الذي أنعم الله عليه نعما دنيوية، فألهته عن آخرته وأطغته، وعصى
الله فيها، أن مآلها الانقطاع والاضمحلال، وأنه وإن تمتع بها قليلا، فإنه
يحرمها طويلا، وأن العبد ينبغي له -إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده- أن
يضيف النعمة إلى موليها ومسديها، وأن يقول: {
ما شاء الله، لا قوة إلا بالله } ليكون شاكرا لله متسببا لبقاء
نعمته عليه، لقوله: { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ
جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
} وفيها: الإرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها، بما عند الله من
الخير لقوله: { إِنْ تَرَن أَنَا أَقَلَّ
مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ
جَنَّتِكَ } وفيها أن المال والولد لا ينفعان، إن لم يعينا على
طاعة الله كما قال تعالى: { وما أموالكم ولا
أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا } وفيه
الدعاء بتلف مال ما كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه، خصوصا إن فضل
نفسه بسببه على المؤمنين، وفخر عليهم، وفيها أن ولاية الله وعدمها إنما
تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحق الجزاء، ووجد العاملون أجرهم فـ {
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ
عُقْبًا } أي: عاقبة ومآلا.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أصلا، ولمن قام بوراثته بعده تبعا:
اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها
وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى
بالإيثار. وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر، ينزل على الأرض،
فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين،
وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح،
فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض
غبراء ترابا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب، كذلك
هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه،
وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع
أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف
لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق
شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح، أو سيئ أعماله، هنالك يعض الظالم على
يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل
الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات،
فالعاقل الجازم الموفق، يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدري أنك
قد مت، ولا بد أن تموتي، فأي: الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه
الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل، لدار أكلها دائم
وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟ فبهذا يعرف توفيق العبد من
خذلانه، وربحه من خسرانه، ولهذا أخبر تعالى أن المال والبنين، زينة
الحياة الدنيا، أي: ليس وراء ذلك شيء، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه
ويسره، الباقيات الصالحات، وهذا يشمل جميع الطاعات الواجبة والمستحبة من
حقوق الله، وحقوق عباده، من صلاة، وزكاة، وصدقة، وحج، وعمرة، وتسبيح،
وتحميد، وتهليل، وتكبير، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمر بمعروف، ونهي عن
منكر، وصلة رحم، وبر والدين، وقيام بحق الزوجات، والمماليك، والبهائم،
وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، فهذه خير
عند الله ثوابا وخير أملا، فثوابها يبقى، ويتضاعف على الآباد، ويؤمل
أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها
المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويجد في تحصيلها المجتهدون، وتأمل
كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ذكر أن الذي فيها نوعان:
نوع من زينتها، يتمتع به قليلا، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربما
لحقته مضرته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على الدوام، وهي
الباقيات الصالحات.
يخبر تعالى عن حال يوم القيامة، وما فيه من الأهوال المقلقة، والشدائد
المزعجة فقال: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ
} أي: يزيلها عن أماكنها، يجعلها كثيبا، ثم يجعلها كالعهن
المنفوش، ثم تضمحل وتتلاشى، وتكون هباء منبثا، وتبرز الأرض فتصير قاعا
صفصفا، لا عوج فيه ولا أمتا، ويحشر الله جميع الخلق على تلك الأرض، فلا
يغادر منهم أحدا، بل يجمع الأولين والآخرين، من بطون الفلوات، وقعور
البحار، ويجمعهم بعدما تفرقوا، ويعيدهم بعد ما تمزقوا، خلقا جديدا،
فيعرضون عليه صفا ليستعرضهم وينظر في أعمالهم، ويحكم فيهم بحكمه العدل،
الذي لا جور فيه ولا ظلم، ويقول لهم: { لقد
جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } أي: بلا مال، ولا أهل، ولا عشيرة،
ما معهم إلا الأعمال، التي عملوها، والمكاسب في الخير والشر، التي كسبوها
كما قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا
فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا
خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } وقال هنا،
مخاطبا للمنكرين للبعث، وقد شاهدوه عيانا: {
بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } أي: أنكرتم
الجزاء على الأعمال، ووعد الله ووعيده، فها قد رأيتموه وذقتموه، فحينئذ
تحضر كتب الأعمال التي كتبتها الملائكة الكرام فتطير لها القلوب، وتعظم
من وقعها الكروب، وتكاد لها الصم الصلاب تذوب، ويشفق منها المجرمون، فإذا
رأوها مسطرة عليهم أعمالهم، محصى عليهم أقوالهم وأفعالهم، قالوا: {
يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا
كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } أي: لا يترك خطيئة صغيرة ولا
كبيرة، إلا وهي مكتوبة فيه، محفوظة لم ينس منها عمل سر ولا علانية، ولا
ليل ولا نهار، { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
حَاضِرًا } لا يقدرون على إنكاره {
وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } فحينئذ يجازون بها، ويقررون
بها، ويخزون، ويحق عليهم العذاب، ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام
للعبيد، بل هم غير خارجين عن عدله وفضله.
يخبر تعالى، عن عداوة إبليس لآدم وذريته، وأن الله أمر الملائكة بالسجود
لآدم، إكراما وتعظيما، وامتثالا لأمر الله، فامتثلوا ذلك {
إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
} وقال: { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ
طِينًا } وقال: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
} فتبين بهذا عداوته لله ولأبيكم ولكم، فكيف تتخذونه وذريته أي:
الشياطين { أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ
لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } أي: بئس ما
اختاروا لأنفسهم من ولاية الشيطان، الذي لا يأمرهم إلا بالفحشاء والمنكر
عن ولاية الرحمن، الذي كل السعادة والفلاح والسرور في ولايته. وفي هذه
الآية، الحث على اتخاذ الشيطان عدوا، والإغراء بذلك، وذكر السبب الموجب
لذلك، وأنه لا يفعل ذلك إلا ظالم، وأي: ظلم أعظم من ظلم من اتخذ عدوه
الحقيقي وليا، وترك الولي الحميد؟".