يخبر تعالى بمننه على عباده الداعية لهم إلى شكره، والقيام بحقه فقال:
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ }
لتدركوا به المسموعات، فتنتفعوا في دينكم ودنياكم،
{ وَالْأَبْصَارَ } لتدركوا بها
المبصرات، فتنتفعوا بها في مصالحكم.
{ وَالْأَفْئِدَةَ }
أي: العقول التي تدركون بها الأشياء، وتتميزون بها عن البهائم، فلو عدمتم
السمع، والأبصار، والعقول، بأن كنتم صما عميا بكما ماذا تكون حالكم؟
وماذا تفقدون من ضرورياتكم وكمالكم؟ أفلا تشكرون الذي من عليكم بهذه
النعم، فتقومون بتوحيده وطاعته؟. ولكنكم، قليل شكركم، مع توالي النعم
عليكم.
{ وَهُوَ }
تعالى { الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ }
أي: بثكم في أقطارها، وجهاتها، وسلطكم على استخراج مصالحها ومنافعها،
وجعلها كافية لمعايشكم ومساكنكم، { وَإِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ } بعد موتكم، فيجازيكم بما عملتم في الأرض، من خير
وشر، وتحدث الأرض التي كنتم فيها بأخبارها {
وَهُوَ } تعالى وحده { الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ } أي: المتصرف في الحياة والموت، هو الله وحده،
{ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ }
أي: تعاقبهما وتناوبهما، فلو شاء أن يجعل النهار سرمدا، من إله غير الله
يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ ولو شاء أن يجعل الليل سرمدا، من إله غير الله
يأتيكم بضياء أفلا تبصرون؟. (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا
فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).
ولهذا قال هنا: { أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
فتعرفون أن الذي وهب لكم من النعم، السمع، والأبصار، والأفئدة، والذي
نشركم في الأرض وحده، والذي يحيي ويميت وحده، والذي يتصرف بالليل والنهار
وحده, أن ذلك موجب لكم، أن تخلصوا له العبادة وحده لا شريك له، وتتركوا
عبادة من لا ينفع ولا يضر، ولا يتصرف بشيء، بل هو عاجز من كل وجه، فلو
كان لكم عقل لم تفعلوا ذلك.
أي: بل سلك هؤلاء المكذبون مسلك الأولين من المكذبين بالبعث، واستبعدوه
غاية الاستبعاد وقالوا: { أَئِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } أي: هذا
لا يتصور، ولا يدخل العقل، بزعمهم.
{ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ }
أي: ما زلنا نوعد بأن البعث كائن، نحن وآباؤنا، ولم نره، ولم يأت بعد،
{ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
} أي: قصصهم وأسمارهم، التي يتحدث بها وتلهى، وإلا فليس لها
حقيقة، وكذبوا -قبحهم الله- فإن الله أراهم، من آياته أكبر من البعث،
ومثله، { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ }
أي: قل لهؤلاء المكذبين بالبعث، العادلين بالله غيره، محتجا عليهم بما
أثبتوه، وأقروا به، من توحيد الربوبية، وانفراد الله بها، على ما أنكروه
من توحيد الإلهية والعبادة، وبما أثبتوه من خلق المخلوقات العظيمة، على
ما أنكروه من إعادة الموتى، الذي هو أسهل من ذلك.
{ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا }
أي: من هو الخالق للأرض ومن عليها، من حيوان، ونبات وجماد وبحار وأنهار
وجبال، المالك لذلك، المدبر له؟ فإنك إذا سألتهم عن ذلك، لا بد أن
يقولوا: الله وحده. فقل لهم إذا أقروا بذلك: {
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } أي: أفلا ترجعون إلى ما ذكركم الله به،
مما هو معلوم عندكم، مستقر في فطركم، قد يغيبه الإعراض في بعض الأوقات.
والحقيقة أنكم إن رجعتم إلى ذاكرتكم, بمجرد التأمل، علمتم أن مالك ذلك،
هو المعبود وحده، وأن إلهية من هو مملوك أبطل الباطل ثم انتقل إلى ما هو
أعظم من ذلك، فقال: { قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ } وما فيها من النيرات، والكواكب
السيارات، والثوابت { وَرَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ } الذي هو أعلى المخلوقات وأوسعها وأعظمها، فمن الذي
خلق ذلك ودبره، وصرفه بأنواع التدبير؟ {
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي: سيقرون بأن الله رب ذلك كله. قل لهم
حين يقرون بذلك: { أَفَلَا تَتَّقُونَ }
عبادة المخلوقات العاجزة، وتتقون الرب العظيم، كامل القدرة، عظيم
السلطان؟ وفي هذا من لطف الخطاب، من قوله: {
أَفَلَا تذكرون }{ أفلا تَتَّقُونَ }
والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب، ما لا يخفى ثم انتقل إلى إقرارهم بما
هو أعم من ذلك كله فقال: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي: ملك كل شيء، من العالم العلوي،
والعالم السفلي، ما نبصره، وما لا نبصره؟. و " الملكوت "ب صيغة مبالغة
بمعنى الملك. { وَهُوَ يُجِيرُ } عباده
من الشر، ويدفع عنهم المكاره، ويحفظهم مما يضرهم،
{ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ } أي: لا يقدر
أحد أن يجير على الله. ولا يدفع الشر الذي قدره الله. بل ولا يشفع أحد
عنده إلا بإذنه ، { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ }
أي: سيقرون أن الله المالك لكل شيء، المجير، الذي لا يجار عليه.
{ قُلْ }
لهم حين يقرون بذلك، ملزما لهم، { فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ } أي: فأين تذهب عقولكم، حيث عبدتم من علمتم أنهم لا
ملك لهم، ولا قسط من الملك، وأنهم عاجزون من جميع الوجوه، وتركتم الإخلاص
للمالك العظيم القادر المدبر لجميع الأمور، فالعقول التي دلتكم على هذا،
لا تكون إلا مسحورة، وهي - بلا شك- قد سحرها الشيطان، بما زين لهم، وحسن
لهم، وقلب الحقائق لهم، فسحر عقولهم، كما سحرت السحرة أعين الناس.
يقول تعالى: بل أتينا هؤلاء المكذبين بالحق، المتضمن للصدق في الأخبار،
العدل في الأمر والنهي، فما بالهم لا يعترفون به، وهو أحق أن يتبع؟ وليس
عندهم ما يعوضهم عنه، إلا الكذب والظلم، ولهذا قال:
{ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ }
كذب يعرف بخبر الله، وخبر رسله، ويعرف بالعقل الصحيح، ولهذا نبه تعالى
على الدليل العقلي، على امتناع إلهين فقال: {
إِذًا } أي: لو كان معه آلهة كما يقولون
{ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ } أي: لانفرد كل واحد من
الإلهين بمخلوقاته, واستقل بها، ولحرص على ممانعة الآخر ومغالبته،
{ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ }
فالغالب يكون هو الإله، وإلا فمع التمانع لا يمكن وجود العالم، ولا يتصور
أن ينتظم هذا الانتظام المدهش للعقول، واعتبر ذلك بالشمس والقمر،
والكواكب الثابتة، والسيارة، فإنها منذ خلقت، وهي تجري على نظام واحد،
وترتيب واحد، كلها مسخرة بالقدرة، مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم، ليست
مقصورة على مصلحة أحد دون أحد، ولن ترى فيها خللا ولا تناقضا، ولا معارضة
في أدنى تصرف، فهل يتصور أن يكون ذلك، تقدير إلهين ربين؟"
{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }
قد نطقت بلسان حالها، وأفهمت ببديع أشكالها، أن المدبر لها إله واحد كامل
الأسماء والصفات، قد افتقرت إليه جميع المخلوقات، في ربوبيته لها، وفي
إلهيته لها، فكما لا وجود لها ولا دوام إلا بربوبيته، كذلك، لا صلاح لها
ولا قوام إلا بعبادته وإفراده بالطاعة، ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج
من ذلك، وهو علمه المحيط، فقال: { عَالِمُ
الْغَيْبِ } أي: الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا، من الواجبات
والمستحيلات والممكنات، { وَالشَّهَادَةِ }
وهو ما نشاهد من ذلك { فَتَعَالَى } أي:
ارتفع وعظم، { عَمَّا يُشْرِكُونَ } به،
من لا علم عنده، إلا ما علمه الله
لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة، فلم يلتفتوا لها، ولم يذعنوا
لها، حق عليهم العذاب، ووعدوا بنزوله، وأرشد الله رسوله أن يقول:
{ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ
} أي: أي وقت أريتني عذابهم، وأحضرتني ذلك
{ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ } أي: اعصمني وارحمني، مما ابتليتهم به من الذنوب
الموجبة للنقم، واحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم، لأن العقوبة العامة
تعم -عند نزولها- العاصي وغيره ، قال الله في تقريب عذابهم:
{ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ
لَقَادِرُونَ } ولكن إن أخرناه فلحكمة، وإلا، فقدرتنا صالحة
لإيقاعه فيهم.
هذا من مكارم الأخلاق، التي أمر الله رسوله بها فقال:
{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
السَّيِّئَةَ } أي: إذا أساء إليك أعداؤك، بالقول والفعل، فلا
تقابلهم بالإساءة، مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته، ولكن ادفع
إساءتهم إليك بالإحسان منك إليهم، فإن ذلك فضل منك على المسيء، ومن مصالح
ذلك، أنه تخف الإساءة عنك، في الحال، وفي المستقبل، وأنه أدعى لجلب
المسيء إلى الحق، وأقرب إلى ندمه وأسفه، ورجوعه بالتوبة عما فعل، وليتصف
العافي بصفة الإحسان، ويقهر بذلك عدوه الشيطان، وليستوجب الثواب من الرب،
قال تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } وقال تعالى:
{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا } أي: ما
يوفق لهذا الخلق الجميل { إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
وقوله: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ }
أي: بما يقولون من الأقوال المتضمنة للكفر والتكذيب بالحق، قد أحاط علمنا
بذلك، وقد حلمنا عنهم، وأمهلناهم، وصبرنا عليهم، والحق لنا، وتكذيبهم
لنا، فأنت -يا محمد- ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون، وتقابلهم بالإحسان،
هذه وظيفة العبد في مقابلة المسيء من البشر، وأما المسيء من الشياطين،
فإنه لا يفيد فيه الإحسان، ولا يدعو حزبه إلا ليكونوا من أصحاب السعير،
فالوظيفة في مقابلته، أن يسترشد بما أرشد الله إليه رسوله فقال:
{ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ } أي اعتصم
بحولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي { مِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ }
أي: أعوذ بك من الشر الذي يصيبني بسبب مباشرتهم وهمزهم ومسهم، ومن الشر
الذي بسبب حضورهم ووسوستهم، وهذه استعاذة من مادة الشر كله وأصله، ويدخل
فيها، الاستعاذة من جميع نزغات الشيطان، ومن مسه ووسوسته، فإذا أعاذ الله
عبده من هذا الشر، وأجاب دعاءه، سلم من كل شر، ووفق لكل خير.
يخبر تعالى عن حال من حضره الموت، من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك
الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا
للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك يقول:
{ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ
} من العمل، وفرطت في جنب الله. {
كَلَّا } أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا
يرجعون، { إِنَّهَا } أي: مقالته التي
تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا { كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا } أي: مجرد قول باللسان، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة
والندم، وهو أيضا غير صادق في ذلك، فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه.
{ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
أي: من أمامهم وبين أيديهم برزخ، وهو الحاجز بين الشيئين، فهو هنا:
الحاجز بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المطيعون، ويعذب
العاصون، من موتهم إلى يوم يبعثون، أي: فليعدوا له عدته، وليأخذوا له
أهبته.
يخبر تعالى عن هول يوم القيامة، وما في ذلك اليوم، من المزعجات
والمقلقات، وأنه إذا نفخ في الصور نفخة البعث، فحشر الناس أجمعون، لميقات
يوم معلوم، أنه يصيبهم من الهول ما ينسيهم أنسابهم، التي هي أقوى
الأسباب، فغير الأنساب من باب أولى، وأنه لا يسأل أحد أحدا عن حاله،
لاشتغاله بنفسه، فلا يدري هل ينجو نجاة لا شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة لا
سعادة بعدها؟ قال تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ*
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }
وفي القيامة مواضع، يشتد كربها، ويعظم وقعها، كالميزان الذي يميز به
أعمال العبد، وينظر فيه بالعدل ما له وما عليه، وتبين فيه مثاقيل الذر،
من الخير والشر، { فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ } بأن رجحت حسناته على سيئاته
{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
لنجاتهم من النار، واستحقاقهم الجنة، وفوزهم بالثناء الجميل ،
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } بأن
رجحت سيئاته على حسناته، وأحاطت بها خطيئاته {
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } كل خسارة، غير هذه
الخسارة، فإنها -بالنسبة إليها- سهلة، ولكن هذه خسارة صعبة، لا يجبر
مصابها، ولا يستدرك فائتها، خسارة أبدية، وشقاوة سرمدية، قد خسر نفسه
الشريفة، التي يتمكن بها من السعادة الأبدية ففوتها هذا النعيم المقيم،
في جوار الرب الكريم.
{ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ }
لا يخرجون منها أبد الآبدين، وهذا الوعيد، إنما هو كما ذكرنا، لمن أحاطت
خطيئاته بحسناته، ولا يكون ذلك إلا كافرا، فعلى هذا، لا يحاسب محاسبة من
توزن حسناته وسيئاته، فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى،
فيوقفون عليها، ويقررون بها، ويخزون بها، وأما من معه أصل الإيمان، ولكن
عظمت سيئاته، فرجحت على حسناته، فإنه وإن دخل النار، لا يخلد فيها، كما
دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
ثم ذكر تعالى، سوء مصير الكافرين فقال: {
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } أي: تغشاهم من جميع جوانبهم، حتى
تصيب أعضاءهم الشريفة، ويتقطع لهبها عن وجوههم،
{ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قد عبست وجوههم، وقلصت شفاههم، من
شدة ما هم فيه، وعظيم ما يلقونه ، فيقال لهم - توبيخا ولوما -:
{ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ }
تدعون بها، لتؤمنوا، وتعرض عليكم لتنظروا، {
فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } ظلما منكم وعنادا، وهي آيات
بينات، دالات على الحق والباطل، مبينات للمحق والمبطل ، فحينئذ أقروا
بظلمهم، حيث لا ينفع الإقرار { قَالُوا
رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } أي: غلبت علينا
الشقاوة الناشئة عن الظلم والإعراض عن الحق، والإقبال على ما يضر، وترك
ما ينفع، { وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ }
في عملهم، وإن كانوا يدرون أنهم ظالمون، أي: فعلنا في الدنيا فعل التائه،
الضال السفيه، كما قالوا في الآية الأخرى: {
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ
السَّعِيرِ }{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } وهم كاذبون في
وعدهم هذا، فإنهم كما قال تعالى: { وَلَوْ
رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } ولم يبق الله لهم حجة،
بل قطع أعذارهم، وعمرهم في الدنيا، ما يتذكر فيه [من] المتذكر، ويرتدع
فيه المجرم، فقال الله جوابا لسؤالهم: {
اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } وهذا القول - نسأله تعالى
العافية- أعظم قول على الإطلاق يسمعه المجرمون في التخييب، والتوبيخ،
والذل، والخسار، والتأييس من كل خير، والبشرى بكل شر، وهذا الكلام والغضب
من الرب الرحيم، أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من عذاب الجحيم ، ثم ذكر
الحال التي أوصلتهم إلى العذاب، وقطعت عنهم الرحمة فقال:
{ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله
الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسل إليه بربوبيته، ومنته
عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم إحسانه، وفي ضمنه، ما يدل
على خضوعهم وخشوعهم، وانكسارهم لربهم، وخوفهم ورجائهم.
فهؤلاء سادات الناس وفضلائهم، {
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ } أيها الكفرة الأنذال ناقصو العقول والأحلام
{ سِخْرِيًّا } تهزءون بهم وتحتقرونهم،
حتى اشتغلتم بذلك السفه. { حَتَّى أَنْسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } وهذا الذي أوجب لهم
نسيان الذكر، اشتغالهم بالاستهزاء بهم، كما أن نسيانهم للذكر، يحثهم على
الاستهزاء، فكل من الأمرين يمد الآخر، فهل فوق هذه الجراءة جراءة؟!
{ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا }
على طاعتي، وعلى أذاكم، حتى وصلوا إلي. {
أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } بالنعيم المقيم، والنجاة من
الجحيم، كما قال في الآية الأخرى: {
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }
الآيات.
{ قَالَ }
لهم على وجه اللوم، وأنهم سفهاء الأحلام، حيث اكتسبوا في هذه المدة
اليسيرة كل شر أوصلهم إلى غضبه وعقوبته، ولم يكتسبوا ما اكتسبه المؤمنون
[من] الخير، الذي يوصلهم إلى السعادة الدائمة ورضوان ربهم.
{ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا
يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }
كلامهم هذا، مبني على استقصارهم جدا، لمدة مكثهم في الدنيا وأفاد ذلك،
لكنه لا يفيد مقداره، ولا يعينه، فلهذا قالوا:
{ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ } أي: الضابطين لعدده ، وأما هم ففي شغل
شاغل وعذاب مذهل، عن معرفة عدده، فقال لهم: {
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا } سواء عينتم عدده، أم لا
{ لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
أي: { أَفَحَسِبْتُمْ }
أيها الخلق { أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا }
أي: سدى وباطلا، تأكلون وتشربون وتمرحون، وتتمتعون بلذات الدنيا، ونترككم
لا نأمركم، و[لا] ننهاكم ولا نثيبكم، ولا نعاقبكم؟ ولهذا قال:
{ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } لا يخطر هذا ببالكم ،
{ فَتَعَالَى اللَّهُ } أي: تعاظم وانتفع عن هذا الظن الباطل،
الذي يرجع إلى القدح في حكمته. { الْمَلِكُ
الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }
فكونه ملكا للخلق كلهم حقا، في صدقه، ووعده، ووعيده، مألوها معبودا، لما
له من الكمال { رَبُّ الْعَرْشِ الكريم }
فما دونه من باب أولى، يمنع أن يخلقكم عبثا.
أي: ومن دعا مع الله آلهة غيره، بلا بينة من أمره ولا برهان يدل على ما
ذهب إليه، وهذا قيد ملازم، فكل من دعا غير الله، فليس له برهان على ذلك،
بل دلت البراهين على بطلان ما ذهب إليه، فأعرض عنها ظلما وعنادا، فهذا
سيقدم على ربه، فيجازيه بأعماله، ولا ينيله من الفلاح شيئا، لأنه كافر،
{ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }
فكفرهم منعهم من الفلاح.
{ وَقُلْ }
داعيا لربك مخلصا له الدين { رَبِّ اغْفِرْ }
لنا حتى تنجينا من المكروه، وارحمنا، لتوصلنا برحمتك إلى كل خير
{ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } فكل
راحم للعبد، فالله خير له منه، أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأرحم به
من نفسه.