هذا بيان من اللّه تعالى لحال القرآن، وحال المكذبين به معه ومع من جاء
به، فقال: {
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ
} أي: ذي القدر العظيم والشرف، المُذَكِّرِ للعباد كل ما يحتاجون إليه من
العلم، بأسماء اللّه وصفاته وأفعاله، ومن العلم بأحكام اللّه الشرعية،
ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء، فهو مذكر لهم في أصول دينهم وفروعه.
وهنا لا يحتاج إلى ذكر المقسم عليه، فإن حقيقة الأمر، أن المقسم به وعليه
شيء واحد، وهو هذا القرآن، الموصوف بهذا الوصف الجليل، فإذا كان القرآن
بهذا الوصف، علم ضرورة العباد إليه، فوق كل ضرورة، وكان الواجب عليهم
تَلقِّيه بالإيمان والتصديق، والإقبال على استخراج ما يتذكر به منه.
فهدى اللّه من هدى لهذا، وأبى الكافرون به وبمن أنزله، وصار معهم {
عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
} عزة وامتناع عن الإيمان به، واستكبار وشقاق له، أي: مشاقة ومخاصمة في
رده وإبطاله، وفي القدح بمن جاء به.
فتوعدهم بإهلاك القرون الماضية المكذبة بالرسل، وأنهم حين جاءهم الهلاك،
نادوا واستغاثوا في صرف العذاب عنهم ولكن {
وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ
} أى: وليس الوقت، وقت خلاص مما وقعوا فيه، ولا فرج لما أصابهم،
فَلْيَحْذَرْ هؤلاء أن يدوموا على عزتهم وشقاقهم، فيصيبهم ما أصابهم.
{
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
} أي: عجب هؤلاء المكذبون في أمر ليس محل عجب، أن جاءهم منذر منهم،
ليتمكنوا من التلقي عنه، وليعرفوه حق المعرفة، ولأنه من قومهم، فلا
تأخذهم النخوة القومية عن اتباعه، فهذا مما يوجب الشكر عليهم، وتمام
الانقياد له.
وذنبه -عندهم- أنه {
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا
} أى: كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء والأنداد، ويأمر بإخلاص العبادة للّه
وحده. {
إِنَّ هَذَا
} الذي جاء به {
لَشَيْءٌ عُجَابٌ
} أي: يقضي منه العجب لبطلانه وفساده.
{
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ
} المقبول قولهم، محرضين قومهم على التمسك بما هم عليه من الشرك. {
أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ
} أى: استمروا عليها، وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها وعلى عبادتها، ولا
يردكم عنها راد، ولا يصدنكم عن عبادتها، صاد. {
إِنَّ هَذَا
} الذي جاء به محمد، من النهي عن عبادتها {
لَشَيْءٌ يُرَادُ
} أي: يقصد، أي: له قصد ونية غير صالحة في ذلك، وهذه شبهة لا تروج إلا
على السفهاء، فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق، لا يرد قوله بالقدح في
نيته، فنيته وعمله له، وإنما يرد بمقابلته بما يبطله ويفسده، من الحجج
والبراهين، وهم قصدهم، أن محمدا، ما دعاكم إلى ما دعاكم، إلا ليرأس فيكم،
ويكون معظما عندكم، متبوعا.
{
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا
} القول الذي قاله، والدين الذي دعا إليه {
فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ
} أي: في الوقت الأخير، فلا أدركنا عليه آباءنا، ولا آباؤنا أدركوا
آباءهم عليه، فامضوا على الذي مضى عليه آباؤكم، فإنه الحق، وما هذا الذي
دعا إليه محمد إلا اختلاق اختلقه، وكذب افتراه، وهذه أيضا شبهة من جنس
شبهتهم الأولى، حيث ردوا الحق بما ليس بحجة لرد أدنى قول، وهو أنه قول
مخالف لما عليه آباؤهم الضالون، فأين في هذا ما يدل على بطلانه؟.
{
أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا
} أي: ما الذي فضله علينا، حتى ينزل الذكر عليه من دوننا، ويخصه اللّه
به؟ وهذه أيضا شبهة، أين البرهان فيها على رد ما قاله؟ وهل جميع الرسل
إلا بهذا الوصف، يَمُنُّ اللّه عليهم برسالته، ويأمرهم بدعوة الخلق إلى
اللّه، ولهذا، لما كانت هذه الأقوال الصادرة منهم لا يصلح شيء منها لرد
ما جاء به الرسول، أخبر تعالى من أين صدرت، وأنهم {
فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي
} ليس عندهم علم ولا بينة.
فلما وقعوا في الشك وارتضوا به، وجاءهم الحق الواضح، وكانوا جازمين
بإقامتهم على شكهم، قالوا ما قالوا من تلك الأقوال لدفع الحق، لا عن بينة
من أمرهم، وإنما ذلك من باب الائتفاك منهم.
ومن المعلوم، أن من هو بهذه الصفة يتكلم عن شك وعناد، إن قوله غير مقبول،
ولا قادح أدنى قدح في الحق، وأنه يتوجه عليه الذم واللوم بمجرد كلامه،
ولهذا توعدهم بالعذاب فقال: {
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ
} أي: قالوا هذه الأقوال، وتجرأوا عليها، حيث كانوا ممتعين في الدنيا، لم
يصبهم من عذاب اللّه شيء، فلو ذاقوا عذابه، لم يتجرأوا.
{
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ
} فيعطون منها من شاءوا، ويمنعون منها من شاءوا، حيث قالوا: {
أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا
} أي: هذا فضله تعالى ورحمته، وليس ذلك بأيديهم حتى يتحجروا على اللّه.
{
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
} بحيث يكونون قادرين على ما يريدون. {
فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ
} الموصلة لهم إلى السماء، فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه، فكيف يتكلمون،
وهم أعجز خلق اللّه وأضعفهم بما تكلموا به؟! أم قصدهم التحزب والتجند،
والتعاون على نصر الباطل وخذلان الحق؟ وهو الواقع فإن هذا المقصود لا يتم
لهم، بل سعيهم خائب، وجندهم مهزوم، ولهذا قال: {
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ
}
يحذرهم تعالى أن يفعل بهم ما فعل بالأمم من قبلهم، الذين كانوا أعظم قوة
منهم وتحزبا على الباطل، {
قَوْم نُوحٍ وَعَاد
} قوم هود {
وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ
} أى: الجنود العظيمة، والقوة الهائلة.
{
وَثَمُود
} قوم صالح، {
وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
} أي: الأشجار والبساتين الملتفة، وهم قوم شعيب، {
أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ
} الذين اجتمعوا بقوتهم وعَدَدِهمْ وعُدَدِهمْ على رد الحق، فلم تغن عنهم
شيئا.
{
إِنْ كُلُّ
} من هؤلاء {
إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
} عليهم {
عِقَابِ
} اللّه، وهؤلاء، ما الذي يطهرهم ويزكيهم، أن لا يصيبهم ما أصاب أولئك.
فلينتظروا {
صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ
} أي: من رجوع ورد، تهلكهم وتستأصلهم إن أقاموا على ما هم عليه.
أي: قال هؤلاء المكذبون، من جهلهم ومعاندتهم الحق، مستعجلين للعذاب: {
رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا
} أي: قسطنا وما قسم لنا من العذاب عاجلا {
قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ
} ولَجُّوا في هذا القول، وزعموا أنك يا محمد، إن كنت صادقا، فعلامة صدقك
أن تأتينا بالعذاب، فقال لرسوله: {
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
} كما صبر مَنْ قبلك من الرسل، فإن قولهم لا يضر الحق شيئا، ولا يضرونك
في شيء، وإنما يضرون أنفسهم.
لما أمر اللّه رسوله بالصبر على قومه، أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة
للّه وحده، ويتذكر حال العابدين، كما قال في الآية الأخرى: {
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا
}
ومن أعظم العابدين، نبي اللّه داود عليه الصلاة والسلام {
ذَا الْأَيْدِ
} أي: القوة العظيمة على عبادة اللّه تعالى، في بدنه وقلبه. {
إِنَّهُ أَوَّابٌ
} أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور بالإنابة إليه، بالحب والتأله،
والخوف والرجاء، وكثرة التضرع والدعاء، رجاع إليه عندما يقع منه بعض
الخلل، بالإقلاع والتوبة النصوح.
ومن شدة إنابته لربه وعبادته، أن سخر اللّه الجبال معه، تسبح معه بحمد
ربها {
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
} أول النهار وآخره.
{
و
} سخر {
الطَّيْرَ مَحْشُورَةً
} معه مجموعة {
كُلٌّ
} من الجبال والطير، لله تعالى {
أَوَّابٌ
} امتثالا لقوله تعالى: {
يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ
} فهذه مِنَّةُ اللّه عليه بالعبادة.
ثم ذكر منته عليه بالملك العظيم فقال: {
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ
} أي: قويناه بما أعطيناه من الأسباب وكثرة الْعَدَد والْعُدَدِ التي بها
قوَّى اللّه ملكه، ثم ذكر منته عليه بالعلم فقال: {
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ
} أي: النبوة والعلم العظيم، {
وَفَصْلَ الْخِطَابِ
} أي: الخصومات بين الناس.
لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس، وكان معروفا
بذلك مقصودا، ذكر تعالى نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما اللّه فتنة
لداود، وموعظة لخلل ارتكبه، فتاب اللّه عليه، وغفر له، وقيض له هذه
القضية، فقال لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: {
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ
} فإنه نبأ عجيب {
إِذْ تَسَوَّرُوا
} على داود {
الْمِحْرَابَ
} أي: محل عبادته من غير إذن ولا استئذان، ولم يدخلوا عليه مع باب، فلذلك
لما دخلوا عليه بهذه الصورة، فزع منهم وخاف، فقالوا له: نحن {
خَصْمَانِ
} فلا تخف {
بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ
} بالظلم {
فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ
} أي: بالعدل، ولا تمل مع أحدنا {
وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ
}
والمقصود من هذا، أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف، وإذا
كان ذلك، فسيقصان عليه نبأهما بالحق، فلم يشمئز نبي اللّه داود من
وعظهما له، ولم يؤنبهما.
فقال أحدهما: {
إِنَّ هَذَا أَخِي
} نص على الأخوة في الدين أو النسب أو الصداقة، لاقتضائها عدم البغي، وأن
بغيه الصادر منه أعظم من غيره. {
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً
} أي: زوجة، وذلك خير كثير، يوجب عليه القناعة بما آتاه اللّه.
{
وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ
} فطمع فيها {
فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا
} أي: دعها لي، وخلها في كفالتي. {
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ
} أي: غلبني في القول، فلم يزل بي حتى أدركها أو كاد.
فقال داود - لما سمع كلامه - ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما،
أن هذا هو الواقع، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر، فلا وجه للاعتراض بقول
القائل: {
لم حكم داود، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر
} ؟ {
لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ
} وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم، فقال: {
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
} لأن الظلم من صفة النفوس. {
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
} فإن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح، يمنعهم من الظلم. {
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ
} كما قال تعالى {
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
} {
وَظَنَّ دَاوُدُ
} حين حكم بينهما {
أَنَّمَا فَتَنَّاهُ
} أي: اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه {
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
} لما صدر منه، {
وَخَرَّ رَاكِعًا
} أي: ساجدا {
وَأَنَابَ
} للّه تعالى بالتوبة النصوح والعبادة.
{
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ
} الذي صدر منه، وأكرمه اللّه بأنواع الكرامات، فقال: {
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى
} أي: منزلة عالية، وقربة منا، {
وَحُسْنَ مَآبٍ
} أي: مرجع.
وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام، لم يذكره اللّه لعدم الحاجة
إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا
من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه
قبلها.
{
يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
} تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية، {
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
} أي: العدل، وهذا لا يتمكن منه، إلا بعلم بالواجب، وعلم بالواقع، وقدرة
على تنفيذ الحق، {
وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى
} فتميل مع أحد، لقرابة أو صداقة أو محبة، أو بغض للآخر {
فَيُضِلَّكَ
} الهوى {
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
} ويخرجك عن الصراط المستقيم، {
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
} خصوصا المتعمدين منهم، {
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
} فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم، لم يميلوا مع الهوى الفاتن.