{
26 - 29
} {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي
كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ
فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ *
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا
مِنَ الْأَسْفَلِينَ
}
يخبر تعالى عن إعراض الكفار عن القرآن، وتواصيهم بذلك، فقال: {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ
} أي: أعرضوا عنه بأسماعكم، وإياكم أن تلتفتوا، أو تصغوا إليه ولا إلى من
جاء به، فإن اتفق أنكم سمعتموه، أو سمعتم الدعوة إلى أحكامه، فـ {
الْغَوْا فِيهِ
} أي: تكلموا بالكلام الذي لا فائدة فيه، بل فيه المضرة، ولا تمكنوا -مع
قدرتكم- أحدًا يملك عليكم الكلام به، وتلاوة ألفاظه ومعانيه، هذا لسان
حالهم، ولسان مقالهم، في الإعراض عن هذا القرآن، {
لَعَلَّكُمْ
} إن فعلتم ذلك {
تَغْلِبُونَ
} ]وهذه[ شهادة من الأعداء، وأوضح الحق، ما شهدت به الأعداء، فإنهم لم
يحكموا بغلبتهم لمن جاء بالحق إلا في حال الإعراض عنه والتواصي بذلك،
ومفهوم كلامهم، أنهم إن لم يلغوا فيه، بل استمعوا إليه، وألقوا أذهانهم،
أنهم لا يغلبون، فإن الحق، غالب غير مغلوب، يعرف هذا، أصحاب الحق
وأعداؤه.
ولما كان هذا ظلمًا منهم وعنادًا، لم يبق فيهم مطمع للهداية، فلم يبق إلا
عذابهم ونكالهم، ولهذا قال: {
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ
} وهو الكفر والمعاصي، فإنها أسوأ ما كانوا يعملون، لكونهم يعملون
المعاصي وغيرها، فالجزاء بالعقوبة، إنما هو على عمل الشرك {
وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
}
{
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ
} الذين حاربوه، وحاربوا أولياءه، بالكفر والتكذيب، والمجادلة والمجالدة.
{
النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ
} أي: الخلود الدائم، الذي لا يفتر عنهم العذاب ساعة، ولا هم ينصرون،
وذلك {
جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ
} فإنها آيات واضحة، وأدلة قاطعة مفيدة لليقين، فأعظم الظلم وأكبر
العناد، جحدها، والكفر بها.
{
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
} أي: الأتباع منهم، بدليل ما بعده، على وجه الحنق، على من أضلهم: {
رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
} أي: الصنفين اللذين، قادانا إلى الضلال والعذاب، من شياطين الجن،
وشياطين الإنس، الدعاة إلى جهنم.
{
نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ
} أي: الأذلين المهانين كما أضلونا، وفتنونا، وصاروا سببًا لنزولنا. ففي
هذا، بيان حنق بعضهم على بعض، وتبرِّي بعضهم من بعض.
{
30 - 32
} {
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا
تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
}
يخبر تعالى عن أوليائه، وفي ضمن ذلك، تنشيطهم، والحث على الاقتداء بهم،
فقال: {
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
} أي: اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية الله تعالى، واستسلموا لأمره، ثم
استقاموا على الصراط المستقيم، علمًا وعملاً، فلهم البشرى في الحياة
الدنيا وفي الآخرة.
{
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ
} الكرام، أي: يتكرر نزولهم عليهم، مبشرين لهم عند الاحتضار. {
أَلَّا تَخَافُوا
} على ما يستقبل من أمركم، {
وَلَا تَحْزَنُوا
} على ما مضى، فنفوا عنهم المكروه الماضي والمستقبل، {
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
} فإنها قد وجبت لكم وثبتت، وكان وعد الله مفعولاً، ويقولون لهم أيضا -
مثبتين لهم، ومبشرين: {
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
} يحثونهم في الدنيا على الخير، ويزينونه لهم، ويرهبونهم عن الشر،
ويقبحونه في قلوبهم، ويدعون الله لهم، ويثبتونهم عند المصائب والمخاوف،
وخصوصًا عند الموت وشدته، والقبر وظلمته، وفي القيامة وأهوالها، وعلى
الصراط، وفي الجنة يهنئونهم بكرامة ربهم، ويدخلون عليهم من كل باب {
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
} ويقولون لهم أيضا: {
وَلَكُمْ فِيهَا
} أي: في الجنة {
مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
} قد أعد وهيئ. {
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
} أي: تطلبون من كل ما تتعلق به إرادتكم وتطلبونه من أنواع اللذات
والمشتهيات، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
} أي: هذا الثواب الجزيل، والنعيم المقيم، نُزُلٌ وضيافة {
مِنْ غَفُورٍ
} غفر لكم السيئات، {
رَحِيمٌ
} حيث وفقكم لفعل الحسنات، ثم قبلها منكم. فبمغفرته أزال عنكم المحذور،
وبرحمته، أنالكم المطلوب.
{
33
} {
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا
وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
}
هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي: لا أحد أحسن قولا. أي: كلامًا
وطريقة، وحالة {
مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ
} بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، بالأمر
بعبادة الله، بجميع أنواعها،والحث عليها، وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما
نهى الله عنه، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه، خصوصًا من هذه الدعوة إلى أصل
دين الإسلام وتحسينه، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن، والنهي عما يضاده من
الكفر والشرك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ومن الدعوة إلى الله، تحبيبه إلى عباده، بذكر تفاصيل نعمه، وسعة جوده،
وكمال رحمته، وذكر أوصاف كماله، ونعوت جلاله.
ومن الدعوة إلى الله، الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنة
رسوله، والحث على ذلك، بكل طريق موصل إليه، ومن ذلك، الحث على مكارم
الأخلاق، والإحسان إلى عموم الخلق، ومقابلة المسيء بالإحسان، والأمر بصلة
الأرحام، وبر الوالدين.
ومن ذلك، الوعظ لعموم الناس، في أوقات المواسم، والعوارض، والمصائب، بما
يناسب ذلك الحال، إلى غير ذلك، مما لا تنحصر أفراده، مما تشمله الدعوة
إلى الخير كله، والترهيب من جميع الشر.
ثم قال تعالى: {
وَعَمِلَ صَالِحًا
} أي: مع دعوته الخلق إلى الله، بادر هو بنفسه، إلى امتثال أمر الله،
بالعمل الصالح، الذي يُرْضِي ربه. {
وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
} أي: المنقادين لأمره، السالكين في طريقه، وهذه المرتبة، تمامها
للصديقين، الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم، وحصلت لهم الوراثة
التامة من الرسل، كما أن من أشر الناس، قولاً، من كان من دعاة الضالين
السالكين لسبله.
وبين هاتين المرتبتين المتباينتين، اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى
عليين، ونزلت الأخرى، إلى أسفل سافلين، مراتب، لا يعلمها إلا الله، وكلها
معمورة بالخلق {
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ
}
{
34 - 35
} {
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
}
يقول تعالى: {
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ
} أي: لا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى، ولا فعل
السيئات والمعاصي التي تسخطه ولا ترضيه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق،
ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها، ولا في وصفها، ولا في جزائها {
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ
}
ثم أمر بإحسان خاص، له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء إليك، فقال: {
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
} أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك،
كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان
إليه، فإن قطعك فَصلْهُ، وإن ظلمك، فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائبًا أو
حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك، وترك
خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة
بالإحسان، حصل فائدة عظيمة.
{
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ
} أي: كأنه قريب شفيق.
{
وَمَا يُلَقَّاهَا
} أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة {
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا
} نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، فإن النفوس مجبولة على
مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟".
فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن
مقابلته للمسيء بجنس عمله، لا يفيده شيئًا، ولا يزيد العداوة إلا شدة،
وأن إحسانه إليه، ليس بواضع قدره، بل من تواضع للّه رفعه، هان عليه
الأمر، وفعل ذلك، متلذذًا مستحليًا له.
{
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
} لكونها من خصال خواص الخلق، التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا
والآخرة، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق.
{
36 - 39
} {
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ
يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ *
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا
عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا
لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
}
لما ذكر تعالى ما يقابل به العدو من الإنس، وهو مقابلة إساءته بالإحسان،
ذكر ما يدفع به العدو الجني، وهو الاستعاذة بالله، والاحتماء من شره
فقال:
{
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
} أي: أي وقت من الأوقات، أحسست بشيء من نزغات الشيطان، أي: من وساوسه
وتزيينه للشر، وتكسيله عن الخير، وإصابة ببعض الذنوب، وإطاعة له ببعض ما
يأمر به {
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
} أي: اسأله، مفتقرًا إليه، أن يعيذك ويعصمك منه، {
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
} فإنه يسمع قولك وتضرعك، ويعلم حالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته.
ثم ذكر تعالى أن {
مِنْ آيَاتِهِ
} الدالة على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وسعة سلطانه، ورحمته بعباده،
وأنه الله وحده لا شريك له {
اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
} هذا بمنفعة ضيائه، وتصرف العباد فيه، وهذا بمنفعه ظلمه، وسكون الخلق
فيه. {
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
} اللذان لا تستقيم معايش العباد، ولا أبدانهم، ولا أبدان حيواناتهم، إلا
بهما، وبهما من المصالح ما لا يحصى عدده.
{
لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ
} فإنهما مدبران مسخران مخلوقان. {
وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي خلقهن
} أي: اعبدوه وحده، لأنه الخالق العظيم، ودعوا عبادة ما سواه، من
المخلوقات، وإن كبر، جرمه وكثرت مصالحه، فإن ذلك ليس منه، وإنما هو من
خالقه، تبارك وتعالى. {
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
} فخصوه بالعبادة وإخلاص الدين له.
{
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا
} عن عبادة الله تعالى، ولم ينقادوا لها، فإنهم لن يضروا الله شيئًا،
والله غني عنهم، وله عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما
يؤمرون، ولهذا قال: {
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ
} يعني: الملائكة المقربين {
يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ
} أي: لا يملون من عبادته، لقوتهم، وشدة الداعي القوي منهم إلى ذلك.
{
وَمِنْ آيَاتِهِ
} الدالة على كمال قدرته، وانفراده بالملك والتدبير والوحدانية، {
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً
} أي: لا نبات فيها {
فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ
} أي: المطر {
اهْتَزَّتْ
} أي: تحركت بالنبات {
وَرَبَتْ
} ثم: أنبتت من كل زوج بهيج، فيحيي به العباد والبلاد.
{
إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا
} بعد موتها وهمودها، {
لَمُحْيِي الْمَوْتَى
} من قبورهم إلى يوم بعثهم، ونشورهم {
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
} فكما لم تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها، لا تعجز عن إحياء
الموتى.
{
40-42
} {
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا
أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ
لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
}
الإلحاد في آيات الله: الميل بها عن الصواب، بأي وجه كان: إما بإنكارها
وجحودها، وتكذيب من جاء بها، وإما بتحريفها وتصريفها عن معناها الحقيقي،
وإثبات معان لها، ما أرادها الله منها.
فتوعَّد تعالى من ألحد فيها بأنه لا يخفى عليه، بل هو مطلع على ظاهره
وباطنه، وسيجازيه على إلحاده بما كان يعمل، ولهذا قال: {
أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ
} مثل الملحد بآيات الله {
خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
} من عذاب الله مستحقًا لثوابه؟ من المعلوم أن هذا خير.
لما تبين الحق من الباطل، والطريق المنجي من عذابه من الطريق المهلك قال:
{
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
} إن شئتم، فاسلكوا طريق الرشد الموصلة إلى رضا ربكم وجنته، وإن شئتم،
فاسلكوا طريق الغيِّ المسخطة لربكم، الموصلة إلى دار الشقاء.
{
إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
} يجازيكم بحسب أحوالكم وأعمالكم، كقوله تعالى: {
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ
فَلْيَكْفُرْ
}
ثم قال تعالى: {
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
} أي: يجحدون القرآن الكريم المذكر للعباد جميع مصالحهم الدينية
والدنيوية والأخروية، المُعلي لقدر من اتبعه، {
لَمَّا جَاءَهُمْ
} نعمة من ربهم على يد أفضل الخلق وأكملهم. {
و
} الحال {
إِنَّهُ لَكِتَابٌ
} جامع لأوصاف الكمال {
عَزِيزٌ
} أي: منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء، ولهذا قال: {
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
} أي: لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن، لا بسرقة، ولا بإدخال ما
ليس منه به، ولا بزيادة ولا نقص، فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه
ومعانيه، قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى: {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
}
{
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
} في خلقه وأمره، يضع كل شيء موضعه، وينزله منازله. {
حَمِيدٌ
} على ما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وعلى ما له من العدل
والإفضال، فلهذا كان كتابه، مشتملاً على تمام الحكمة، وعلى تحصيل المصالح
والمنافع، ودفع المفاسد والمضار، التي يحمد عليها.
{
43
} {
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ
رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ
}
أي: {
مَا يُقَالُ لَكَ
} أيها الرسول من الأقوال الصادرة، ممن كذبك وعاندك {
إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ
} أي: من جنسها، بل ربما إنهم تكلموا بكلام واحد، كتعجب جميع الأمم
المكذبة للرسل، من دعوتهم إلى الإخلاص للّه وعبادته وحده لا شريك له،
وردهم هذا بكل طريق يقدرون عليه، وقولهم: {
مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا
}
واقتراحهم على رسلهم الآيات، التي لا يلزمهم الإتيان بها، ونحو ذلك من
أقوال أهل التكذيب، لما تشابهت قلوبهم في الكفر، تشابهت أقوالهم، وصبر
الرسل عليهم السلام على أذاهم وتكذيبهم، فاصبر كما صبر من قبلك.
ثم دعاهم إلى التوبة والإتيان بأسباب المغفرة، وحذرهم من الاستمرار على
الغيّ فقال: {
إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
} أي: عظيمة، يمحو بها كل ذنب لمن أقلع وتاب {
وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ
} لمن: أصر واستكبر.
{
44
} {
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى
وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
}
يخبر تعالى عن فضله وكرمه، حيث أنزل كتابا عربيًا، على الرسول العربي،
بلسان قومه، ليبين لهم، وهذا مما يوجب لهم زيادة الاغتناء به، والتلقي له
والتسليم، وأنه لو جعله قرآنا أعجميًا، بلغة غير العرب، لاعترض، المكذبون
وقالوا: {
لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
} أي: هلا بينت آياته، ووضحت وفسرت. {
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ
} أي: كيف يكون محمد عربيًا، والكتاب أعجمي؟ هذا لا يكون فنفى الله تعالى
كل أمر، يكون فيه شبهة لأهل الباطل، عن كتابه، ووصفه بكل وصف، يوجب لهم
الانقياد، ولكن المؤمنون الموفقون، انتفعوا به، وارتفعوا، وغيرهم بالعكس
من أحوالهم.
ولهذا قال: {
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ
} أي: يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم، ويعلمهم من العلوم النافعة،
ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من الأسقام البدنية، والأسقام
القلبية، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال، ويحث على التوبة
النصوح، التي تغسل الذنوب وتشفي القلب.
{
وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
} بالقرآن {
فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ
} أي: صمم عن استماعه وإعراض، {
وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
} أي: لا يبصرون به رشدًا، ولا يهتدون به، ولا يزيدهم إلا ضلالاً فإنهم
إذا ردوا الحق، ازدادوا عمى إلى عماهم، وغيًّا إلى غيَّهم.
{
أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
} أي: ينادون إلى الإيمان، ويدعون إليه، فلا يستجيبون، بمنزلة الذي
ينادي، وهو في مكان بعيد، لا يسمع داعيًا ولا يجيب مناديًا. والمقصود: أن
الذين لا يؤمنون بالقرآن، لا ينتفعون بهداه، ولا يبصرون بنوره، ولا
يستفيدون منه خيرًا، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى، بإعراضهم
وكفرهم.
{
45-46
} {
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
}
يقول تعالى: {
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
} كما آتيناك الكتاب، فصنع به الناس ما صنعوا معك، اختلفوا فيه: فمنهم من
آمن به واهتدى وانتفع، ومنهم من كذبه ولم ينتفع به، وإن اللّه تعالى،
لولا حلمه وكلمته السابقة، بتأخير العذاب إلى أجل مسمى لا يتقدم عليه ولا
يتأخر {
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
} بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين، بإهلاك الكافرين في الحال، لأن
سبب الهلاك قد وجب وحق. {
وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ
} أي: قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم، فلذلك كذبوه وجحدوه.
{
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
} وهو العمل الذي أمر اللّه به، ورسوله {
فَلِنَفْسِهِ
} نفعه وثوابه في الدنيا والآخرة {
وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا
} ضرره وعقابه، في الدنيا والآخرة، وفي هذا، حثٌّ على فعل الخير، وترك
الشر، وانتفاع العاملين، بأعمالهم الحسنة، وضررهم بأعمالهم السيئة، وأنه
لا تزر وازرة وزر أخرى. {
وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
} فَيُحمِّل أحدًا فوق سيئاتهم.
{
47-48
} {
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ
أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا
بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ
مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ
قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ
}
هذا إخبار عن سعة علمه تعالى واختصاصه بالعلم الذي لا يطلع عليه سواه
فقال: {
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ
} أي: جميع الخلق ترد علمهم إلى الله تعالى، ويقرون بالعجز عنه، الرسل،
والملائكة، وغيرهم.
{
وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا
} أي: وعائها الذي تخرج منه، وهذا شامل لثمرات جميع الأشجار التي في
البلدان والبراري، فلا تخرج ثمرة شجرة من الأشجار، إلا وهو يعلمها علما
تفصيليًا.
{
وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى
} من بني آدم وغيرهم، من أنواع الحيوانات، إلا بعلمه {
وَلَا تَضَعُ
} أنثى حملها {
إِلَّا بِعِلْمِهِ
} فكيف سوَّى المشركون به تعالى، من لا علم عنده ولا سمع ولا بصر؟.
{
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ
} أي: المشركين به يوم القيامة توبيخًا وإظهارًا لكذبهم، فيقول لهم: {
أَيْنَ شُرَكَائِيَ
} الذين زعمتم أنهم شركائي، فعبدتموهم، وجادلتم على ذلك، وعاديتم الرسل
لأجلهم؟ {
قَالُوا
} مقرين ببطلان إلهيتهم، وشركتهم مع الله: {
آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ
} أي: أعلمناك يا ربنا، واشهد علينا أنه ما منا أحد يشهد بصحة إلهيتهم
وشركتهم، فكلنا الآن قد رجعنا إلى بطلان عبادتها، وتبرأنا منها، ولهذا
قال: {
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ
} من دون الله، أي: ذهبت عقائدهم وأعمالهم، التي أفنوا فيها أعمارهم على
عبادة غير الله، وظنوا أنها تفيدهم، وتدفع عنهم العذاب، وتشفع لهم عند
الله، فخاب سعيهم، وانتقض ظنهم، ولم تغن عنهم شركاؤهم شيئًا {
وَظَنُّوا
} أي: أيقنوا في تلك الحال {
مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ
} أي: منقذ ينقذهم، ولا مغيث، ولا ملجأ، فهذه عاقبة من أشرك بالله غيره،
بينها الله لعباده، ليحذروا الشرك به.
{
49-51
} {
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ
الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ
بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ
السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ
لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى
الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ
}
هذا إخبار عن طبيعة الإنسان، من حيث هو، وعدم صبره وجلده، لا على الخير
ولا على الشر، إلا من نقله الله من هذه الحال إلى حال الكمال، فقال: {
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ
} أي: لا يمل دائمًا، من دعاء الله، في الغنى والمال والولد، وغير ذلك من
مطالب الدنيا، ولا يزال يعمل على ذلك، ولا يقتنع بقليل، ولا كثير منها،
فلو حصل له من الدنيا، ما حصل، لم يزل طالبًا للزيادة.
{
وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ
} أي: المكروه، كالمرض، والفقر، وأنواع البلايا {
فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ
} أي: ييأس من رحمة الله تعالى، ويظن أن هذا البلاء هو القاضي عليه
بالهلاك، ويتشوش من إتيان الأسباب، على غير ما يحب ويطلب.
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإنهم إذا أصابهم الخير والنعمة
والمحاب، شكروا الله تعالى، وخافوا أن تكون نعم الله عليهم، استدراجًا
وإمهالاً، وإن أصابتهم مصيبة، في أنفسهم وأموالهم، وأولادهم، صبروا،
ورجوا فضل ربهم، فلم ييأسوا.
ثم قال تعالى: {
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ
} أي: الإنسان الذي يسأم من دعاء الخير، وإن مسه الشر فيئوس قنوط {
رَحْمَةً مِنَّا
} أي: بعد ذلك الشر الذي أصابه، بأن عافاه الله من مرضه، أو أغناه من
فقره، فإنه لا يشكر الله تعالى، بل يبغى، ويطغى، ويقول: {
هَذَا لِي
} أي: أتاني لأني له أهل، وأنا مستحق له {
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً
} وهذا إنكار منه للبعث، وكفر للنعمة والرحمة، التي أذاقها الله له. {
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى
} أي: على تقدير إتيان الساعة، وأني سأرجع إلى ربي، إن لي عنده، للحسنى،
فكما حصلت لي النعمة في الدنيا، فإنها ستحصل ]لي[ في الآخرة وهذا من أعظم
الجراءة والقول على الله بلا علم، فلهذا توعده بقوله: {
فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
} أي: شديد جدًا.
{
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ
} بصحة، أو رزق، أو غيرهما {
أَعْرَضَ
} عن ربه وعن شكره {
وَنَأَى
} ترفع {
بِجَانِبِهِ
} عجبا وتكبرًا. {
وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ
} أي: المرض، أو الفقر، أو غيرهما {
فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ
} أي: كثير جدًا، لعدم صبره، فلا صبر في الضراء، ولا شكر في الرخاء، إلا
من هداه الله ومنَّ عليه.
{
52-54
} {
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ
مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
* أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ
}
أي {
قُلْ
} لهؤلاء المكذبين بالقرآن المسارعين إلى الكفران {
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ
} هذا القرآن {
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
} من غير شك ولا ارتياب، {
ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
} أي: معاندة للّه ولرسوله، لأنه تبين لكم الحق والصواب، ثم عدلتم عنه،
لا إلى حق، بل إلى باطل وجهل، فإذا تكونون أضل الناس وأظلمهم.
فإن قلتم، أو شككتم بصحته وحقيقته، فسيقيم اللّه لكم، ويريكم من آياته في
الآفاق كالآيات التي في السماء وفي الأرض، وما يحدثه اللّه تعالى من
الحوادث العظيمة، الدالة للمستبصر على الحق.
{
وَفِي أَنْفُسِهِمْ
} مما اشتملت عليه أبدانهم، من بديع آيات اللّه وعجائب صنعته، وباهر
قدرته، وفي حلول العقوبات والمثلات في المكذبين، ونصر المؤمنين. {
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
} من تلك الآيات، بيانًا لا يقبل الشك {
أَنَّهُ الْحَقُّ
} وما اشتمل عليه حق.
وقد فعل تعالى، فإنه أرى عباده من الآيات، ما به تبين لهم أنه الحق، ولكن
اللّه هو الموفق للإيمان من شاء، والخاذل لمن يشاء.
{
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
} أي: أولم يكفهم على أن القرآن حق، ومن جاء به صادق، بشهادة اللّه
تعالى، فإنه قد شهد له بالتصديق، وهو أصدق الشاهدين، وأيده، ونصره نصرًا
متضمنًا لشهادته القولية، عند من شك فيها.
{
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ
} أي: في شك من البعث والقيامة، وليس عندهم دار سوى الدار الدنيا، فلذلك
لم يعملوا للآخرة، ولم يلتفتوا لها. {
أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ
} علما وقدرة وعزة.
تم تفسير سورة فصلت
-بمنه تعالى- |