{ 23-32 } { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا
وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ
الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ *
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُو
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ *وَنَبِّئْهُمْ
أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ *
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي
وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا
كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }
أي كذبت ثمود وهم القبيلة المعروفة المشهورة في أرض الحجر، نبيهم
صالحا عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأنذرهم
العقاب إن هم خالفوه
فكذبوه واستكبروا عليه، وقالوا -كبرا وتيها-:
{ أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ }
أي: كيف نتبع بشرا، لا ملكا منا، لا من غيرنا، ممن هو أكبر عند الناس
منا، ومع ذلك فهو شخص واحد
{ إِنَّا إِذًا }
أي: إن اتبعناه وهو بهذه الحال
{ لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ }
أي: إنا لضالون أشقياء، وهذا الكلام من ضلالهم وشقائهم، فإنهم أنفوا أن
يتبعوا رسولا من البشر، ولم يأنفوا أن يكونوا عابدين للشجر والحجر
والصور.
{ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا }
أي: كيف يخصه الله من بيننا وينزل عليه الذكر؟ فأي مزية خصه من بيننا؟
وهذا اعتراض من المكذبين على الله، لم يزالوا يدلون به، ويصولون ويجولون
ويردون به دعوة الرسل، وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بقول الرسل لأممهم:
{ قالت رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده }
فالرسل من الله عليهم بصفات وأخلاق وكمالات، بها صلحوا لرسالات ربهم
والاختصاص بوحيه،
ومن رحمته وحكمته أن كانوا من البشر، فلو كانوا من الملائكة لم يمكن
البشر، أن يتلقوا عنهم، ولو جعلهم من الملائكة لعاجل الله المكذبين لهم
بالعقاب العاجل.
والمقصود بهذا الكلام الصادر من ثمود لنبيهم صالح، تكذيبه، ولهذا حكموا
عليه بهذا الحكم الجائر، فقالوا:
{ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ }
أي: كثير الكذب والشر،
فقبحهم الله ما أسفه أحلامهم وأظلمهم، وأشدهم مقابلة للصادقين الناصحين
بالخطاب الشنيع، لا جرم عاقبهم الله حين اشتد طغيانهم
فأرسل الله الناقة التي هي من أكبر النعم عليهم، آية من آيات الله، ونعمة
يحتلبون من ضرعها ما يكفيهم أجمعين،
{ فِتْنَةً لَهُمْ }
أي: اختبارا منه لهم وامتحانا
{ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ }
أي: اصبر على دعوتك إياهم، وارتقب ما يحل بهم، أو ارتقب هل يؤمنون أو
يكفرون؟
{ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ }
أي: وأخبرهم أن الماء أي: موردهم الذي يستعذبونه، قسمة بينهم وبين
الناقة، لها شرب يوم ولهم شرب يوم آخر معلوم،
{ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ }
أي: يحضره من كان قسمته، ويحظر على من ليس بقسمة له.
{ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ }
الذي باشر عقرها، الذي هو أشقى القبيلة
{ فَتَعَاطَى }
أي: انقاد لما أمروه به من عقرها
{ فَعَقَرَ }
{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }
كان أشد عذاب، أرسل الله عليهم صيحة ورجفة أهلكتهم عن آخرهم، ونجى الله
صالحا ومن آمن معه
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }
{ 33-40 } { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ *
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ
أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ
رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي
وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ *
فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }
أي:
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ }
لوطا عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن
الشرك والفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين،
فكذبوه واستمروا على شركهم وقبائحهم، حتى إن الملائكة الذين جاءوه بصورة
أضياف حين سمع بهم قوم لوط، جاؤوهم مسرعين، يريدون إيقاع الفاحشة فيهم،
لعنهم الله وقبحهم، وراودوه عنهم،
فأمر الله جبريل عليه السلام، فطمس أعينهم بجناحه، وأنذرهم نبيهم بطشة
الله وعقوبته
{ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ }
{ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ }
قلب الله عليهم ديارهم، وجعل أسفلها أعلاها، وتتبعهم بحجارة من سجيل
منضود، مسومة عند ربك للمسرفين، ونجى الله لوطا وأهله من الكرب العظيم،
جزاء لهم على شكرهم لربهم، وعبادته وحده لا شريك له.
{ 41-55 } { وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ *
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي
الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ
وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ
وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا
مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا
أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي
الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ
}
أي:
{ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ }
أي: فرعون وقومه
{ النُّذُرُ }
فأرسل الله إليهم موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات، والمعجزات
القاهرات وأشهدهم من العبر ما لم يشهد عليه أحدا غيرهم فكذبوا بآيات
الله كلها، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأغرقهم في اليم هو وجنوده والمراد
من ذكر هذه القصص تحذير [الناس و] المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم،
ولهذا قال:
{ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ }
أي: هؤلاء الذين كذبوا أفضل الرسل، خير من أولئك المكذبين، الذين ذكر
الله هلاكهم وما جرى عليهم؟ فإن كانوا خيرا منهم، أمكن أن ينجوا من
العذاب، ولم يصبهم ما أصاب أولئك الأشرار، وليس الأمر كذلك، فإنهم إن لم
يكونوا شرا منهم، فليسوا بخير منهم،
{ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ }
أي: أم أعطاكم الله عهدا وميثاقا في الكتب التي أنزلها على الأنبياء،
فتعتقدون حينئذ أنكم الناجون بإخبار الله ووعده؟ وهذا غير واقع، بل غير
ممكن عقلا وشرعا، أن تكتب براءتهم في الكتب الإلهية المتضمنة للعدل
والحكمة، فليس من الحكمة نجاة أمثال هؤلاء المعاندين المكذبين، لأفضل
الرسل وأكرمهم على الله، فلم يبق إلا أن يكون بهم قوة ينتصرون بها،
فأخبر تعالى أنهم يقولون:
{ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ }
قال تعالى مبينا لضعفهم، وأنهم مهزومون:
{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }
فوقع كما أخبر، هزم الله جمعهم الأكبر يوم بدر، وقتل من صناديدهم
وكبرائهم ما ذلوا به ونصر الله دينه ونبيه وحزبه المؤمنين.
ومع ذلك، فلهم موعد يجمع به أولهم وآخرهم، ومن أصيب في الدنيا منهم، ومن
متع بلذاته، ولهذا قال:
{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ }
الذي يحازون به، ويؤخذ منهم الحق بالقسط،
{ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ }
أي: أعظم وأشق، وأكبر من كل ما يتوهم، أو يدور بالبال
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ }
أي: الذين أكثروا من فعل الجرائم، وهي الذنوب العظيمة من الشرك وغيره، من
المعاصي
{ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ }
أي: هم ضالون في الدنيا، ضلال عن العلم، وضلال عن العمل، الذي ينجيهم من
العذاب، ويوم القيامة في العذاب الأليم، والنار التي تتسعر بهم، وتشتعل
في أجسامهم، حتى تبلغ أفئدتهم.
{ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ }
التي هي أشرف ما بهم من الأعضاء، وألمها أشد من ألم غيرها، فيهانون بذلك
ويخزون، ويقال لهم:
{ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ }
أي: ذوقوا ألم النار وأسفها وغيظها ولهبها.
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }
وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية، أن الله تعالى وحده
خلقها لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في خلقها
وخلقها بقضاء سبق به علمه، وجرى به قلمه، بوقتها ومقدارها، وجميع ما
اشتملت عليه من الأوصاف، وذلك على الله يسير، فلهذا قال:
{ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }
فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون كما أراد، كلمح البصر، من غير ممانعة ولا
صعوبة.
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ }
من الأمم السابقين الذين عملوا كما عملتم، وكذبوا كما كذبتم
{ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }
أي: متذكر يعلم أن سنة الله في الأولين والآخرين واحدة، وأن حكمته كما
اقتضت إهلاك أولئك الأشرار، فإن هؤلاء مثلهم، ولا فرق بين الفريقين.
{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ }
أي: كل ما فعلوه من خير وشر مكتوب
عليهم في الكتب القدرية
{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ }
أي: مسطر مكتوب،
وهذا حقيقة القضاء والقدر، وأن جميع الأشياء كلها، قد علمها الله تعالى،
وسطرها عنده في اللوح المحفوظ، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما
أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ }
لله، بفعل أوامره وترك نواهيه، الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر.
{ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ }
أي: في جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على
قلب بشر، من الأشجار اليانعة، والأنهار الجارية، والقصور الرفيعة،
والمنازل الأنيقة، والمآكل والمشارب اللذيذة، والحور الحسان، والروضات
البهية في الجنان، ورضوان الملك الديان، والفوز بقربه، ولهذا قال:
{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ }
فلا تسأل بعد هذا عما يعطيهم ربهم من كرامته وجوده، ويمدهم به من إحسانه
ومنته، جعلنا الله منهم، ولا حرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
تم تفسير سورة القمر، ولله الحمد والشكر |