إلى آخر القصة.
هذه السورة تسمى { سورة بني النضير } وهم طائفة كبيرة من اليهود في جانب
المدينة، وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث النبي صلى الله
عليه وسلم، وهاجر إلى المدينة، كفروا به في جملة من كفر من اليهود، فلما
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هادن سائر طوائف اليهود الذين
هم جيرانه في المدينة، فلما كان بعد [وقعة] بدر بستة أشهر أو نحوها، خرج
إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين
الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس
هاهنا حتى نقضي حاجتك، فخلا بعضهم ببعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي
كتب عليهم، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه
الرحى فيصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا،
فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه
لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه، بما
هموا به، فنهض مسرعا، فتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فقالوا: نهضت ولم
نشعر بك، فأخبرهم بما همت يهود به.
وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن اخرجوا من المدينة ولا
تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه"
فأقاموا أياما يتجهزون، وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي [بن سلول]:
"أن لا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون
دونكم، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان".
وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
فكبر رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه، ونهضوا إليهم، وعلي بن أبي طالب
يحمل اللواء.
فأقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة، وخانهم ابن
أبي وحلفاؤهم من غطفان، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطع
نخلهم وحرق. فأرسلوا إليه: نحن نخرج من المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا
منها بنفوسهم، وذراريهم، وأن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح، وقبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم، الأموال والسلاح.
وكانت بنو النضير، خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح
المسلمين، ولم يخمسها، لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجف المسلمون عليها
بخيل ولا ركاب، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم، واستولى على
أرضهم وديارهم، وقبض السلاح، فوجد من السلاح خمسين درعا، وخمسين بيضة،
وثلاثمائة وأربعين سيفا، هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير.
فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض تسبح
بحمد ربها، وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وتعبده وتخضع لجلاله لأنه العزيز
الذي قد قهر كل شيء، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يستعصي عليه مستعصي الحكيم
في خلقه وأمره، فلا يخلق شيئا عبثا، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه، ولا يفعل
إلا ما هو مقتضى حكمته.
ومن ذلك، نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل
الكتاب من بني النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي
ألفوها وأحبوها.
وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صلى
الله عليه وسلم، فجلوا إلى خيبر، ودلت الآية الكريمة أن لهم حشرا وجلاء
غير هذا، فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر، ثم عمر
رضي الله عنه، [أخرج بقيتهم منها].
{ مَا ظَنَنْتُمْ }
أيها المسلمون
{ أَنْ يَخْرُجُوا }
من ديارهم، لحصانتها، ومنعتها، وعزهم فيها.
{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ }
فأعجبوا بها وغرتهم، وحسبوا أنهم لا ينالون بها، ولا يقدر عليها أحد،
وقدر الله تعالى وراء ذلك كله، لا تغني عنه الحصون والقلاع، ولا تجدي
فيهم القوة والدفاع.
ولهذا قال:
{ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا }
أي: من الأمر والباب، الذي لم يخطر ببالهم أن يؤتوا منه، وهو أنه تعالى
{ قذف فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ }
وهو الخوف الشديد، الذي هو جند الله الأكبر، الذي لا ينفع معه عدد ولا
عدة، ولا قوة ولا شدة، فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم
منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها، واطمأنت نفوسهم إليها، ومن وثق
بغير الله فهو مخذول، ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبال فأتاهم أمر
سماوي نزل على قلوبهم، التي هي محل الثبات والصبر، أو الخور والضعف،
فأزال الله قوتها وشدتها، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا، لا حيلة لهم ولا
منعة معه فصار ذلك عونا عليهم، ولهذا قال:
{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ }
وذلك أنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم، على أن لهم ما حملت الإبل.
فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم، التي استحسنوها، وسلطوا المؤمنين بسبب
بغيهم على إخراب ديارهم وهدم حصونهم، فهم الذين جنوا على أنفسهم، وصاروا
من أكبر عون عليها،
{ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }
أي: البصائر النافذة، والعقول الكاملة، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع
الله تعالى في المعاندين للحق، المتبعين لأهوائهم، الذين لم تنفعهم
عزتهم، ولا منعتهم قوتهم، ولا حصنتهم حصونهم، حين جاءهم أمر الله، ووصل
إليهم النكال بذنوبهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن هذه
الآية تدل على الأمر بالاعتبار، وهو اعتبار النظير بنظيره، وقياس الشيء
على مثله، والتفكر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم التي هي محل
العقل والفكرة، وبذلك يزداد العقل، وتتنور البصيرة ويزداد الإيمان،
ويحصل الفهم الحقيقي، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما
يستحقون من العقوبة، وأن الله خفف عنهم.
فلولا أنه كتب عليهم الجلاء الذي أصابهم وقضاه عليهم وقدره بقدره الذي لا
يبدل ولا يغير، لكان لهم شأن آخر من عذاب الدنيا ونكالها، ولكنهم - وإن
فاتهم العذاب الشديد الدنيوي - فإن لهم في الآخرة عذاب النار، الذي لا
يمكن أن يعلم شدته إلا الله تعالى، فلا يخطر ببالهم أن عقوبتهم قد انقضت
وفرغت ولم يبق لهم منها بقية، فما أعد الله لهم من العذاب في الآخرة أعظم
وأطم.
وذلك لأنهم
{ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ }
وعادوهما وحاربوهما، وسعوا في معصيتهما.
ولما لام بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في قطع
النخيل والأشجار، وزعموا أن ذلك من الفساد، وتوصلوا بذلك إلى الطعن
بالمسلمين، أخبر تعالى أن قطع النخيل إن قطعوه أو إبقاءهم إياه إن أبقوه،
إنه بإذنه تعالى، وأمره
{ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ }
حيث سلطكم على قطع نخلهم، وتحريقها، ليكون ذلك نكالا لهم، وخزيا في
الدنيا، وذلا يعرف به عجزهم التام، الذي ما قدروا على استنقاذ نخلهم،
الذي هو مادة قوتهم. واللينة: اسم يشمل سائر النخيل على أصح الاحتمالات
وأولاها، فهذه حال بني النضير، وكيف عاقبهم الله في الدنيا.
ثم ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم، فقال:
{ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ }
أي: من أهل هذه القرية، وهم بنو النضير.
{ فـ }
إنكم يا معشر المسلمين
{ ما أَوْجَفْتُمْ }
أي: ما أجلبتم وأسرعتم وحشدتم،
{ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ }
أي: لم تتعبوا بتحصيلها، لا بأنفسكم ولا بمواشيكم، بل قذف الله في قلوبهم
الرعب، فأتتكم صفوا عفوا، ولهذا. قال:
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
من تمام قدرته أنه لا يمتنع منه ممتنع، ولا يتعزز من دونه قوي. وتعريف
الفيء في اصطلاح الفقهاء: هو ما أخذ من مال الكفار بحق، من غير قتال،
كهذا المال الذي فروا وتركوه خوفا من المسلمين، وسمي فيئا، لأنه رجع من
الكفار الذين هم غير مستحقين له، إلى المسلمين الذين لهم الحق الأوفر
فيه.
وحكمه العام، كما ذكره الله في قوله
{ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى }
عموما، سواء أفاء الله في وقت رسوله أو بعده، لمن يتولى من بعده أمته
{ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ }
وهذه الآية نظير الآية التي في سورة الأنفال، في قوله:
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ }
فهذا الفيء يقسم خمسة أقسام:
خمس لله ولرسوله يصرف في مصالح المسلمين [العامة]، وخمس لذوي القربى،
وهم: بنو هاشم وبنو المطلب، حيث كانوا يسوى [فيه] بين، ذكورهم وإناثهم،
وإنما دخل بنو المطلب في خمس الخمس، مع بني هاشم، ولم يدخل بقية بني عبد
مناف، لأنهم شاركوا بني هاشم في دخولهم الشعب، حين تعاقدت قريش على هجرهم
وعداوتهم فنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف غيرهم، ولهذا قال
النبي صلى الله عليه وسلم، في بني عبد المطلب: "إنهم لم يفارقوني في
جاهلية ولا إسلام"
وخمس لفقراء اليتامى، وهم: من لا أب له ولم يبلغ، وخمس للمساكين، وسهم
لأبناء السبيل، وهم الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم.
وإنما قدر الله هذا التقدير، وحصر الفيء في هؤلاء المعينين لـ
{ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً }
أي: مدوالة واختصاصا
{ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ }
فإنه لو لم يقدره، لتداولته الأغنياء الأقوياء، ولما حصل لغيرهم من
العاجزين منه شيء، وفي ذلك من الفساد، ما لا يعلمه إلا الله، كما أن في
اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر، ولذلك أمر الله
بالقاعدة الكلية والأصل العام، فقال:
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا }
وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول يتعين
على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول على حكم
الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم
قول أحد على قوله، ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والأرواح
[والدنيا والآخرة]، وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم، وبإضاعتها
الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، فقال:
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
على من ترك التقوى، وآثر اتباع الهوى.
(8) ثم ذكر تعالى الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى الأموال أموال الفيء
لمن قدرها له، وأنهم حقيقون بالإعانة، مستحقون لأن تجعل لهم، وأنهم ما
بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات والمألوفات، من الديار والأوطان والأحباب
والخلان والأموال، رغبة في الله ونصرة لدين الله، ومحبة لرسول الله،
فهؤلاء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم
الصالحة والعبادات الشاقة، بخلاف من ادعى الإيمان وهو لم يصدقه بالجهاد
والهجرة وغيرهما من العبادات، وبين أنصار وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا
بالله ورسوله طوعا ومحبة واختيارا، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا
ومرجعا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون
إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى
الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا، وينمو
قليلا قليلا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف
والسنان.
الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم
{ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ }
وهذا لمحبتهم لله ولرسوله، أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه.
{ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا }
أي: لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل
والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد
والحسد عنها.
ويدل ذلك على أن المهاجرين، أفضل من الأنصار، لأن الله قدمهم بالذكر،
وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله
تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم، ولأنهم جمعوا بين النصرة
والهجرة.
وقوله:
{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }
أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم،
الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال
وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا
يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس
ولذاتها، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه
بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا، والإيثار عكس الأثرة، فالإيثار
محمود، والأثرة مذمومة، لأنها من خصال البخل والشح، ومن رزق الإيثار فقد
وقي شح نفسه
{ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
ووقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي
العبد شح نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعا منقادا،
منشرحا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوبا
للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله
وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل
ابتلي بالشح بالخير، الذي هو أصل الشر ومادته، فهذان الصنفان، الفاضلان
الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق
والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا
أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين
وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم، ويأتم بهداهم، ولهذا ذكر الله من
اللاحقين، من هو مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال:
{ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ }
أي: من بعد المهاجرين والأنصار
{ يَقُولُونَ }
على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين:
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالْإِيمَانِ }
وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين، السابقين من الصحابة، ومن قبلهم ومن
بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم
لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي
من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا.
ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره
الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو
ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.
فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان، لأن قولهم:
{ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ }
دليل على المشاركة في الإيمان وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان
وأصوله، وهم أهل السنة والجماعة، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا
عليهم، ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها، واستغفار بعضهم لبعض،
واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لإخوانهم المؤمنين، لأن دعاءهم
بذلك مستلزم لما ذكرنا، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا، وأن يحب أحدهم لأخيه ما
يحب لنفسه وأن ينصح له حاضرا وغائبا، حيا وميتا، ودلت الآية الكريمة
[على] أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض، ثم ختموا دعاءهم باسمين
كريمين، دالين على كمال رحمة الله وشدة رأفته وإحسانه بهم، الذي من
جملته، بل من أجله، توفيقهم للقيام بحقوق الله وحقوق عباده.
فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة، وهم المستحقون للفيء الذي
مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام.
وهؤلاء أهله الذين هم أهله، جعلنا الله منهم، بمنه وكرمه.
ثم تعجب تعالى من حال المنافقين، الذين طمعوا إخوانهم من أهل الكتاب، في
نصرتهم، وموالاتهم على المؤمنين، وأنهم يقولون لهم:
{ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَدًا أَبَدًا }
أي: لا نطيع في عدم نصرتكم أحدا يعذلنا أو يخوفنا،
{ وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ }
في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم.
ولا يستكثر هذا عليهم، فإن الكذب وصفهم، والغرور والخداع، مقارنهم،
والنفاق والجبن يصحبهم، ولهذا كذبهم [الله] بقوله، الذي وجد مخبره كما
أخبر الله به، ووقع طبق ما قال، فقال:
{ لَئِنْ أُخْرِجُوا }
من ديارهم جلاء ونفيا
{ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ }
لمحبتهم للأوطان، وعدم صبرهم على القتال، وعدم وفائهم بوعدهم
{ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ }
بل يستولي عليهم الجبن، ويملكهم الفشل، ويخذلون إخوانهم، أحوج ما كانوا
إليهم.
{ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ }
على الفرض والتقدير
{ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ }
أي: ليحصل منهم الإدبار عن القتال والنصرة، ولا يحصل لهم نصر من الله.
والسبب الذي أوجب لهم ذلك أنكم - أيها المؤمنون -
{ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ }
فخافوا منكم أعظم مما يخافون الله، وقدموا مخافة المخلوق الذي لا يملك
لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، على مخافة الخالق، الذي بيده الضر والنفع،
والعطاء والمنع.
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ }
مراتب الأمور، ولا يعرفون حقائق الأشياء، ولا يتصورون العواقب، وإنما
الفقه كل الفقه، أن يكون خوف الخالق ورجاؤه ومحبته مقدمة على غيرها،
وغيرها تبعا لها.
{ 14 } { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا }
أي: في حال الاجتماع
{ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ }
أي: لا يثبتون لقتالكم ولا يعزمون عليه، إلا إذا كانوا متحصنين في
القرى، أو من وراء الجدر والأسوار.
فإنهم إذ ذاك ربما يحصل منهم امتناع، اعتمادا [على] حصونهم وجدرهم، لا
شجاعة بأنفسهم، وهذا من أعظم الذم،
{ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ }
أي: بأسهم فيما بينهم شديد، لا آفة في أبدانهم ولا في قوتهم، وإنما الآفة
في ضعف إيمانهم وعدم اجتماع كلمتهم، ولهذا قال:
{ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا }
حين تراهم مجتمعين ومتظاهرين.
{ و }
لكن
{ قلوبهم شَتَّى }
أي: متباغضة متفرقة متشتتة.
{ ذَلِكَ }
الذي أوجب لهم اتصافهم بما ذكر
{ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ }
أي: لا عقل عندهم، ولا لب، فإنهم لو كانت لهم عقول، لآثروا الفاضل على
المفضول، ولما رضوا لأنفسهم بأبخس الخطتين، ولكانت كلمتهم مجتمعة،
وقلوبهم مؤتلفة، فبذلك يتناصرون ويتعاضدون، ويتعاونون على مصالحهم
ومنافعهم الدينية والدنيوية.
مثل هؤلاء المخذولين من أهل الكتاب، الذين انتصر الله لرسوله منهم،
وأذاقهم الخزي في الحياة الدنيا.
وعدم نصر من وعدهم بالمعاونة
{ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا }
وهم كفار قريش الذين زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال:
{ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ
فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ [وَقَالَ
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ] }
الآية.
فغرتهم أنفسهم، وغرهم من غرهم، الذين لم ينفعوهم، ولم يدفعوا عنهم
العذاب، حتى أتوا "بدرا" بفخرهم وخيلائهم، ظانين أنهم مدركون برسول الله
والمؤمنين أمانيهم.
فنصر الله رسوله والمؤمنين عليهم، فقتلوا كبارهم وصناديدهم، وأسروا من
أسروا منهم، وفر من فر، وذاقوا بذلك وبال أمرهم وعاقبة شركهم وبغيهم، هذا
في الدنيا،
{ وَلَهُمْ }
في الآخرة عذاب النار.
ومثل هؤلاء المنافقين الذين غروا إخوانهم من أهل الكتاب
{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ }
أي: زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه، فلما اغتر به وكفر، وحصل له الشقاء،
لم ينفعه الشيطان، الذي تولاه ودعاه إلى ما دعاه إليه، بل تبرأ منه و
{ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ }
أي: ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك، ولست بمغن عنك مثقال ذرة من الخير.
{ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا }
أي: الداعي الذي هو الشيطان، والمدعو الذي هو الإنسان حين أطاعه
{ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا }
كما قال تعالى:
{ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
{ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ }
الذين اشتركوا في الظلم والكفر، وإن اختلفوا في شدة العذاب وقوته، وهذا
دأب الشيطان مع كل أوليائه، فإنه يدعوهم ويدليهم إلى ما يضرهم بغرور، حتى
إذا وقعوا في الشباك، وحاقت بهم أسباب الهلاك، تبرأ منهم وتخلى عنهم.
واللوم كل اللوم على من أطاعه، فإن الله قد حذر منه وأنذر، وأخبر بمقاصده
وغايته ونهايته، فالمقدم على طاعته، عاص على بصيرة لا عذر له.
يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه، سرا
وعلانية، في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره
وشرائعه وحدوده، وينظروا ما لهم وما عليهم، وماذا حصلوا عليه من الأعمال
التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم
وقبلة قلوبهم، واهتموا بالمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة
إليها، وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو
تصرفهم، وإذا علموا أيضا، أن الله خبير بما يعملون، لا تخفى عليه
أعمالهم، ولا تضيع لديه ولا يهملها، أوجب لهم الجد والاجتهاد.
وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها،
فإن رأى زللا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب
الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر من أوامر الله، بذل جهده
واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه
وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة.
والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوما نسوا الله
وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم
ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن
منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا،
لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره، لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن
طاعة ربهم وأوضعوا في معاصيه، فهل يستوي من حافظ على تقوى الله ونظر لما
قدم لغده، فاستحق جنات النعيم، والعيش السليم - مع الذين أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - ومن غفل عن ذكر الله، ونسي
حقوقه، فشقي في الدنيا، واستحق العذاب في الآخرة، فالأولون هم الفائزون،
والآخرون هم الخاسرون.
ولما بين تعالى لعباده ما بين، وأمرهم ونهاهم في كتابه العزيز، كان هذا
موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه وحثهم عليه، ولو كانوا في القسوة
وصلابة القلوب كالجبال الرواسي، فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته
خاشعا متصدعا من خشية الله أي: لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن
أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح
المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خالية
من التكلف لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف، تصلح
لكل زمان ومكان، وتليق لكل أحد.
ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال، ويوضح لعباده في كتابه الحلال
والحرام، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها، فإن التفكر فيها يفتح
للعبد خزائن العلم، ويبين له طرق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق،
ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق، فلا أنفع للعبد من التفكر في
القرآن والتدبر لمعانيه.
هذه الآيات الكريمات قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى وأوصافه
العلى، عظيمة الشأن، وبديعة البرهان، فأخبر أنه الله المألوه المعبود،
الذي لا إله إلا هو، وذلك لكماله العظيم، وإحسانه الشامل، وتدبيره العام،
وكل إله سواه فإنه باطل لا يستحق من العبادة مثقال ذرة، لأنه فقير عاجز
ناقص، لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا، ثم وصف نفسه بعموم العلم الشامل،
لما غاب عن الخلق وما يشاهدونه، وبعموم رحمته التي وسعت كل شيء ووصلت إلى
كل حي.
ثم كرر [ذكر] عموم إلهيته وانفراده بها، وأنه المالك لجميع الممالك،
فالعالم العلوي والسفلي وأهله، الجميع، مماليك لله، فقراء مدبرون.
{ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ }
أي: المقدس السالم من كل عيب وآفة ونقص، المعظم الممجد، لأن القدوس يدل
على التنزيه عن كل نقص، والتعظيم لله في أوصافه وجلاله.
{ الْمُؤْمِنُ }
أي: المصدق لرسله وأنبيائه بما جاءوا به، بالآيات البينات، والبراهين
القاطعات، والحجج الواضحات.
{ الْعَزِيزُ }
الذي لا يغالب ولا يمانع، بل قد قهر كل شيء، وخضع له كل شيء،
{ الْجَبَّارُ }
الذي قهر جميع العباد، وأذعن له سائر الخلق، الذي يجبر الكسير، ويغني
الفقير،
{ الْمُتَكَبِّرُ }
الذي له الكبرياء والعظمة، المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور.
{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
وهذا تنزيه عام عن كل ما وصفه به من أشرك به وعانده.
{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ }
لجميع المخلوقات
{ الْبَارِئُ }
للمبروءات
{ الْمُصَوِّرُ }
للمصورات، وهذه الأسماء متعلقة بالخلق والتدبير والتقدير، وأن ذلك كله قد
انفرد الله به، لم يشاركه فيه مشارك.
{ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }
أي: له الأسماء الكثيرة جدا، التي لا يحصيها ولا يعلمها أحد إلا الله هو،
ومع ذلك، فكلها حسنى أي: صفات كمال، بل تدل على أكمل الصفات وأعظمها، لا
نقص في شيء منها بوجه من الوجوه، ومن حسنها أن الله يحبها، ويحب من
يحبها، ويحب من عباده أن يدعوه ويسألوه بها.
ومن كماله، وأن له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، أن جميع من في
السماوات والأرض مفتقرون إليه على الدوام، يسبحون بحمده، ويسألونه
حوائجهم، فيعطيهم من فضله وكرمه ما تقتضيه رحمته وحكمته،
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
الذي لا يريد شيئا إلا ويكون، ولا يكون شيئا إلا لحكمة ومصلحة.
تم تفسير سورة الحشر، فلله الحمد على ذلك، والمنة والإحسان.